السعودية… "تحولات ثقافية" ترفض "منيف والقصيمي"
قبل أيام، تسمّرت أطرافي أمام شاشة التلفزيون، شاهدت العزيزة، العارضة والممثلة جورجينا رودريغز بحفل "جوي أورد". كنت أسترق النظر لحسناوات بينهن وبين ما أعرفه من نساء (دون سابق معرفة) ما صنع الحداد، لم تكن "جورجينا" والممثلة صوفيا فيرغارا وحدهما بطلتا الحدث، وإن كانتا تستأهلان ذلك، لكنهما النكهة الجديدة في الرياض. لم تأل كثيرات ممن حضرن الحفل جهدًا في إظهار مؤهلاتهن، بمن فيهن الفنانة المصرية انتصار عبد الباسط.
ولأني عائد من عملي مهدود الحيل، غلبتني عيناي وسمعت كأن أحدهم يقول "إحنا اتغيرنا قوي يا لينا". وفي نعاس عيني، مرّ بخاطري عبد الرحمن منيف، يضحك ملء شدقيه، لم ينبس ببنت شفة، كأنما ألمع ولم يصرّح، وبعده بلحظات يخطو الشيخ عوض القرني، بخطوات متثاقلة، شاخص النظر لا يلوي على شيء، يمسح بيمينه وجهه مرّات عدّة.
لماذا يزورني صاحب "مدن الملح" في هذا الوقت السعيد؟ ما صلته بالحسناء أرجنتينية النشأة، برتغالية الهوى؟ تُرى هل كان من عشاق كريستيانو رونالد؟ ألديه تحفّظ ما على مهرجان البهجة؟ هل أزعجته الممثلة أسماء شريف منير حين قارنت نفسها بالقديرة جورجينا؟ وفيما يفكر القرني الآن؟ وما مسوّغات حكّة المخرج العالمي ميل جيبسون؟ تقاطرت الأسئلة ولا أجد لها مسوّغًا.
في استرجاع ليس ببعيد، على طريقة الروائيين، تنامى إلى ذاكرتي تصريح أمير سعودي قبل 11 سنة، إذ قال "أنا سلفي أولًا وأخيرًا، ولا أقبل بمثل هذا الطرح". سألت نفسي: "أين هذا الرجل وأمثاله الآن؟ وما موقفهم من هيئة الترفيه؟ ولماذا يتطامن كثيرون وهم يرون انفتاحاً من كلّ ناحية؟". هذا الرجل الذي أعلنها قبل سنوات مدوّية مزلزلة، أتراه غيّر موقفه؟ السياسة في بعض تعريفاتها براغماتية كابرًا عن كابر، نفعية بامتياز، أو بالتعبير الشعبي "لا حب ولا عداوة لكن المصالح بتتصالح"، ومع ذلك، فإنّ نبرته يومها كانت صادقة، لا تشم فيها رائحة مواربة أو دبلوماسية.
استيقظ الوسط الأدبي على خبر هزّ الأرجاء، تقول الصحف السعودية إنّ نادي القصيم الأدبي سيبدأ، غدًا الثلاثاء 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2012، الملتقى السابع تحت عنوان "التحولات الثقافية في المملكة"، وذلك على مدى يومين بفندق موفنبيك القصيم بمدينة بريدة، وإنّ الأمير فيصل بن مشعل آل سعود (نائب أمير منطقة القصيم حينها، وأمير القصيم الحالي) سينوب عن الأمير فيصل بن بندر (أمير منطقة القصيم يومها، وأمير الرياض حاليًا) في افتتاح الملتقى، وستُناقش 27 ورقة بحثية اعتمدتها لجنة تحكيم الملتقى.
بعد أيام من ضجة ملتقى القصيم، أصدر النادي بيانًا موّضحًا أنه تلقى "توجيهات" بمنع الورقتين، ولأنه مؤسسة رسمية، فكان لزامًا عليه أن ينفذ التعليمات
ملتقى كأي ملتقى، ومناقشات فكرية وأدبية كغيرها، لا شيء يخطف الأبصار أو القلوب أو عدسات المصورين ويسترعي انتباه الصحافيين، لكن ما دار خلف الكواليس كان يستدعي الوقوف عنده. اتصالات من هنا وهناك، تبدو رائحة غضب في المحيط، يقول نائب الأمير "ما أقدم عليه النادي أمر غير مشرّف، وخطأ فادح، وعقوق للدين والدولة"، ثم يبتلع ريقه ويضيف "لا يشرفني حضور مثل هذه الملتقيات، فأنا سلفي أولًا وأخيرًا، ولا أقبل بمثل هذا الطرح".
هنا تأتي الصدمة الأولى، لماذا يعد ملتقى أدبي عقوقًا للدين والدولة؟ ولماذا عبّر فيصل بن مشعل عن رأيه الشخصي أو موقف المنطقة بنبرة غاضبة؟ استقبل الملتقى ورقتين بحثيتين (من بين الأوراق الـ27) إحداهما بعنوان "التحولات الثقافية عند عبد الرحمن منيف" لمحمد القشعمي، والثانية بعنوان "جدلية التحوّل وجدلية التغيير عند عبد الله القصيمي" لهاشم الجحدلي؛ فثارت ثائرة نائب الأمير داعيًا وزارة الثقافة الإعلام السعودية إلى تقويم مسار الأندية.
بالرغم من أنّ منيف والقصيمي من أبناء القصيم، ومن ثم فمن المنطقي أن يكونا ضمن ورقات البحث، إذ "الأقربون أولى بالمعروف"، لكن التوّجه البعثي لمنيف، فضلًا عن ثوريته الروائية في خماسية "مدن الملح" وغيرها، والمسلك الإلحادي للقصيمي كانت مبعث الرفض المسبق للورقتين، بغضّ النظر عما سيرد فيهما.
والنظرة العجلى إلى سيرة مقدميْ الورقتيْن تشي بأنهما لن يخرجا عمّا أورداه سلفًا في حديثهما عن الرجلين؛ القشعمي في كتابه "ترحال الطائر النبيل" الذي يمثل سيرة ذاتية لعبد الرحمن منيف، والجحدلي أعلى قيمة القصيمي ومجّده في أكثر من 22 مقالة نشرتها جريدة عكاظ.
والتهبت الأجواء في الليلة الأولى، إذ ألغى النادي الأدبي الورقتين بعد ضغوط مورست عليه، الشيخ عوض القرني كتب 60 تغريدة ينتقد فيها اختيار الملتقى لهاتين الشخصيتين، وركزّ في هجومه على القصيمي، ونقل عددًا من أقوال القصيمي في كتبه، أقوال لا يقول بها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، بلغت حد التطاوّل على الذات الإلهية!
بعد أيام من ضجة ملتقى القصيم، أصدر النادي بيانًا موّضحًا أنه تلقى "توجيهات" بمنع الورقتين، ولأنه مؤسسة رسمية، فكان لزامًا أن ينفذ التعليمات، ما يشي بأنّ الجو المحافظ كان سيد الموقف، والآن في أقل من عقد انفرجت الزاوية، وأقيم أول قداس لعيد الميلاد في السعودية بـ"رعاية كاملة من سلطات المملكة"، (والليالي من الزمانِ حُبالى/ مثقلاتٍ يلدن كلّ عجيبِ).
وفي "عالم بلا خرائط"، ألا يقتضي احتضان الفن أن نتصالح مع الباب المفتوح؟ أن يتاح لعبد الرحمن منيف التواصل مع المملكة؟ وإذا أتيح المجال للانفتاح على الثقافة الغربية؛ فلماذا لا يتاح الانفتاح على القصيمي ومن مثله؟ أسئلة مشروعة ومتساوقة مع التوجه الجديد، فإذا ثارت حمية أحدهم و"تمعّر" وجهه غيرةً على بيضة الإسلام؛ "فإن من بدأ المأساة يُنهيها/ وإن من يفتح الأبواب يُغلقها/ وإن من أشعل النيران يُطفيها"، بتعبير عمنا نزار قباني.
بين أمس واليوم تشعر أننا في فيلم هندي، مع الاحترام والتقدير للسيد "أميتاب باتشان". أمس غُيّب القرني وآخرون كثر عن المشهد، منهم من حُكم عليه بالإعدام، أو توارى عن الساحة أو هو قيد الإقامة الجبرية. أمس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واليوم هيئة الترفيه، تتصدّر الساحة وتجسّد التحولات الثقافية والفنية والانفتاح في المملكة، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ، وإن كان أمس ليلًا واليوم نهارًا، فإنّ قطاعًا ليس بالقليل يردّد (إن همسًا وإن جهرًا) مع العباس بن الأحنف "فوددتُ أن الليلَ دام وأنه/ ذهب النهارُ فلا يكون نهارُ".