الرّقص والمعنى
سعيد ناشيد
خُلق جسد الإنسان لكي يتحرّك في كلّ الاتجاهات وبكيفيات لامحدودة، وذلك وسط بيئة معادية. صحيح أنّ الإنسان كائن يمشي على قدمين، لكنه يستطيع أن يقفز على قدم واحدة، يستطيع أن يقفز طولاً وعرضاً، يستطيع أن يتشقلب في كلّ الاتجاهات، بل يستطيع أن يمشي على يديه إن شاء مع قليل من التمارين.
جسد الإنسان مرِنٌ بما يكفي لكي يدير عنقه يميناً ويساراً وبزوايا مختلفة، مرِنٌ بما يكفي لكي يلتوي بظهره ويتقوّس بمختلف الزوايا الممكنة. إذ لا يوجد ما يفعل ذلك غير الجسد البشري، إنه هائل!
لذلك كلّه يحبّ الجسد أن يحتفي بقدراته الهائلة عن طريق مختلف أنواع الرياضة، مختلف أنواع الرقص، ومختلف أنواع الفنون الاستعراضية. لكن، أثناء ذلك يفضّل الجسد الاستعانة بالإيقاع. وهذا ما يفسّر حدوث تطوّر سريع في اكتساب المهارات الرياضية داخل الأندية التي تستعين بالموسيقى الإيقاعية، طالما مفعول الإيقاع يساعد الجسد على التجاوب بنحو أكثر خفة ومرونة.
أجسادنا تحبّ الإيقاع، تحبّ أن تقفز بشكل إيقاعي، تحب أن تستدير بشكل إيقاعي، تحب أن تتحرّك بشكل إيقاعي، تحب أن ترقص إذاً. فمتى نُسجت قصة العشق تلك بين أجسادنا والإيقاع؟
لا نملك اليقين، بيد أنّ هناك فرضية تُحيل إلى نبضات قلب الأم التي هي أوّل ما يسمعه الجنين في الرحم، مع صوت تدفق الدم في الشرايين. مؤكد أنّ أَحبّ الأصوات إلى أذن الإنسان هي الأصوات الإيقاعية، حيث تتتابع النبضات بنحو منتظم، فضلاً عن صوت تدفق الماء، ما يفسّر عشق الناس للشلالات، وعشقنا نحن المغاربة لصوت تدفق الشاي على الكؤوس، فنراه شرطاً للجلسة الممتعة.
كلّ الشعوب المتحضرة والبدائية على حد سواء، جميعها، تمجد الرقص وتبجله، ومن خلاله تخاطب الوجود، وتحاكي الطبيعة، وتمنح للجسد فرصة للتعبير والكلام
خلال الأشهر الأخيرة من حياة الرحم، يكون صوت إيقاع تتابع النبضات هو نفسه لدى كلّ الأجنة، ويكون الجسد الذي يُصغي ويركل بيديه ورجليه هو نفسه، وفي النهاية تكون التجربة الحسية هي نفسها لدى كلّ الكائنات البشرية.
هنا يكمن الأساس الكوني لتقسيم الزمن الموسيقي: تتابع النبضات، وصوت التدفق المنساب.
كان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بليغاً حين قال على لسان زارادشت: "لا أؤمن بإله لا يحسن الرّقص". لعلّها التفاتة ذكية من فيلسوف يمقت الخمول. لكن ما جدوى هذا الرّقص الذي يكاد يبلغ مع نيتشه درجة الصلاة؟ أيّ البشائر يمكن أن يحملها الرّقص لهذا الكائن الإنساني المقذوف به في بيئة غير آمنة؟
في مقاربة السؤال يمكننا أن نستدعي ما كان يُسميه نيتشه بالمعرفة المرحة، وبحيث ندرك أنّ الرّقص انحيازٌ لا مشروط للحياة.
الرقص هو التعبير الأسمى عن إرادة الحياة.
إذا كان الأمر كذلك، فمعضلتنا أنّنا شعوب تراجعت قدرتها على الرقص في سياق خيبات العقود الماضية. صحيح أنّ الرّقص "الفوضوي" يملأ تلفزاتنا آناء الليل وكلّ النهار، لكننا في الواقع لم نعد نجيد الرّقص مثل أجدادنا، ولم نعد نحبّذه. إنّنا قليلاً ما نترك لأجسادنا حق الاندفاع في غمرة الإيقاعات الحيوية، بل أصبحنا نشهد نزوعاً إلى إهانة الجسد، وبالتالي حشره في الزاوية الضيقة أمام مآلين دراماتيكيين، البرقع الأسود والحزام الناسف. ألسنا شعوب "غضّ البصر" طالما "العين تزني"..!
أصبحنا نشهد نزوعاً إلى إهانة الجسد، وبالتالي حشره في الزاوية الضيقة أمام مآلين دراماتيكيين، البرقع الأسود والحزام الناسف
بعيداً عن ذلك كله، يكون الرّقص أسلوبا علاجياً فعالاً ضدّ التحجر والتعصب والتشدّد. يكون الرقص أسلوباً احتجاجياً فعّالًا ضدّ أجهزة القمع والتسلط والاستبداد. يكون الرقص أسلوباً فعالاً في التعبير عن الحب والوفاء والسلام. يكون الرقص هو بلاغة الجسد بفطرته السليمة.
لذلك، نرى الرقص جزءا من ثقافة كلّ الشعوب، فكلّ شعوب الأرض ترقص، كلّ الشعوب تعيد تمثيل تمايل السنابل أثناء الرياح، تعيد تجسيد غوص الأسماك تحت الماء، تعيد تشكيل وقفة البجع على ضفاف البحيرة. كلّ الشعوب المتحضرة والبدائية على حد سواء، جميعها، تمجد الرقص وتبجله، ومن خلاله تخاطب الوجود، وتحاكي الطبيعة، وتمنح للجسد فرصة للتعبير والكلام.
حتى مجتمعات العالم الإسلامي واصلت الرقص بتعبيراتها البليغة ضد أصوات الغلو في التحريم.
بل لا ننسى ما فعله مولانا جلال الدين الرومي حين جعل من الرقص أجمل مناجاة لله تعالى، فترك بذلك النحو إبداعاً لا يزال يبهر العالم.