الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره

06 يناير 2024
+ الخط -

منذ أيام وأنا أملك عنوانًا فقط دون أن أملك قصة. عنوان جميل عليّ أن أخترع قصة تُناسبه، وليس العكس: أن أملك قصة ثم أبحث لها عن عنوان. بل العنوان أهم من القصة، خصوصًا حين يكون عنوانًا جميلًا، ولا تكون القصة سوى محاولات فاشلة للإمساك به. 

وقفت ذاك اليوم فوق جسر تحته طريق سيّار، تأملت شاحنات نقل بضائع عابرة للقارات وهي تمر دون توّقف، تبتعد بالتدريج وهي تطن كنحلٍ عملاق إلى أن تختفي في صمتٍ بعيد. السيجار بين أصابعي لم أشعله منذ ثلاث ساعات. أفضله كذلك دون دخان. كما لو أنّي ممثل هامشي في فيلم سينمائي تجريبي قصير عن المهاجرين. 

وبعد مرورِ آلاف الشاحنات دون أن تكون لذلك أيّة علاقة بالقصة ولا بعنوانها، فجأة لمعت في ذهني هذه الجملة: الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره. ومنذ ذلك اليوم، وأنا أبحث لهذا العنوان عن قصة فلا أجدها، وقد عاهدت نفسي ألا أشعل السيجار إلا بعد كتابة القصة. 

واليوم، كتبت قصة بسرعة، ليس كي أكتبها في حقيقة الأمر، بل فقط كي أشعل السيجار، وبعد أن أشعلته أعدت قراءة القصة فمسحتها لأنّي وجدتها سخيفة ولم يكن بالإمكان إعادة السيجار إلى وضعه الأوّل، ولا إعادة الدخان إلى اللفافة، ولا إعادة الزمن إلى الساعات.

اكتفيت بأن قلت في نفسي: هذا العنوان نفسه هو القصة. لماذا سأحتاج إلى عشرات السطور من أجل إشعال سيجار أو من أجل شرح شيء واضح هو: الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره؟ 

قلت في نفسي: هذا العنوان نفسه هو القصة. لماذا سأحتاج إلى عشرات السطور من أجل إشعال سيكار أو من أجل شرح شيء واضح هو: الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره؟ 

بل دون كتابة أيّة قصة يمكنك تخيّل المشهد وحدك: رجل لا يفارق كلبه وكلبه لا يفارقه، ورغم أنّ الكلب ضخم جدا إلا أنّ الرجل يحمله على ظهره ويصعد به العقبات لاهثًا ومتجهًا نحو الجسر الذي تحته طريق سيّار يمتد إلى الأبد دون تعرّجات، تعبره شاحنات عملاقة عابرة للقارات، وأمام الجسر هناك غابة ممتدة حتى الأفق يشقها ذلك الطريق، والرجل يصعد الجسر ليتأمل الشاحنات أو ليتأملها كلبه أو ليتأملاها معًا، أو (وهذا مرجح أكثر؟) ليلقي الكلب من هناك ويعود. 

في الغالب كلّ هذه الاحتمالات ستبدو غير أكيدة (بما فيها احتمال أنّ الكلب مشلول)، وكلّ ما ستؤدي إليه هو إفساد العنوان. أمّا الاحتمال الأكثر إقناعًا وإرضاءً لي فهو عدم وجود أيّ احتمال لهذه القصة. 

إنّها صورة فقط. لوحة جامدة ومستقلة: رجل يحمل كلبه على ظهره. رجل طيب. رجل عبيط. رجل شرير. لا أحد يدري ولا أحد يريد أن يدري. صورة فقط. من الخلف. من الظهر. عند الغروب. جنب الجسر المقابل لغابة يشقها طريق سيّار، وهناك سرب من غربان "فان غوغ" عائدة إلى أشجار الضاحية الهادئة. 

صورة ملتقطة من نافذة شاحنة عابرة للقارات أو من على دراجة هوائية بألوان الطيف وبانكسارات ضوئية طولية مائعة. لا تبدو فيها ملامح الرجل واضحة، ولا ملامح الكلب بحيث سيصعب تحديد هوية الرجل كما تحديد فصيلة الكلب. 

لماذا يحمل كلبه على ظهره ويصعد به الأدراج المؤدية إلى الجسر؟ لا أحد يدري، ولا أحد يريد، أو بالأحرى يستطيع أن يدري. 

بالتالي، القصة بعنوانها يجب أن تكون هكذا: الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره. هكذا فقط: الرجل الذي يحمل كلبه على ظهره، وليس مثلا الرجل الذي يحمل ماضيه على ظهره، أو الرجل الذي يحمل العالم على ظهره. ليس ذلك أبدًا أو سواه، إنه رجل واضح وواقعي للغاية، لا يحمل ولا يحتمل أي شيء آخر مجازي على ظهره سوى كلبه. 

القصة إذاً، هي العنوان نفسه وفقط، وبإمكاني الآن تدخين سيجاري بسلام من علو خمسين مترا فوق هذا الجسر الذي يدغدغ إبطيه هدير الشاحنات طيلة اليوم، وتفاديًا للزلازل لا يضحك، لا يضحك أبدًا.

دلالات
محمد بنميلود
محمد بنميلود
كاتب مغربي من مواليد الرباط المغرب 1977، مقيم حاليا في بلجيكا. يكتب الشعر والقصة والرواية والسيناريو. صدرت له رواية بعنوان، الحي الخطير، سنة 2017 عن دار الساقي اللبنانية في بيروت.