الرأس الكبير يصلح لدراسة الطب!

04 أكتوبر 2022
+ الخط -

قال لي أبو صالح إن إصابته بطلق ناري، خلال احتفال جيرانه بنجاح ابنهم "أمجد" في الثانوية العامة، لم تكن خطيرة، ومن حسن الحظ أن الجرح شُفي بسرعة، لأنه خارجي، ولكنه، من باب الاحتياط، بقي تحت إشراف الطبيب، وتناول عشر حبات أنتي بيوتيك، وهو الآن تمام، وقد جدد التوبة على ألا يحضر أية مناسبة فرح طالما أنه مقيم في هذه البلاد، لأن قلوب بعض الناس في بلادنا لا يمكن أن يدخلها الفرح دون سماع دوي الرصاص.

قلت: نعم. وبما أن الشيء بالشيء يذكر.. في أيام مراحل دراستنا المبكرة، يعني في الستينيات والسبعينيات، كنا نعلم بصدور النتائج عندما تتعالى في سماء البلدة (معرة مصرين) أصواتُ طلقات من مسدسات عيار 6 ملم، أو 5.8 ملم، أو 9 ملم، احتفالاً بنجاح بعض الطلاب الكسالى! أقول الكسالى، لأن، أهالي الطلاب المتفوقين عموماً لا يحتفلون بنجاح أبنائهم، بل العكس، يوبخونهم، أو يضربونهم على مؤخراتهم، أو على (شفاتيرهم)؛ مثلما حصل مع تلك الطالبة الظريفة التي حدثتَني عنها في اتصالك السابق، التي اضطرت أن تخرج من مخبئها وتمد شفتيها (شفاتيرها) لوالدتها وتقول لها: اضربي، خلصينا..

- كأن ضريبة العلم تقع على الطالب المتفوق نفسه.

- طبعاً.. وهذا هو الشيء الطبيعي، الأمر لا يقتصر على التفوق في الدراسة، فأستاذنا محمد الماغوط، مثلاً، حينما بلغه أن شاباً طعن نجيب محفوظ بالسكين قال: لا توجد موهبة كبيرة يمكن أن تمر دون عقاب!

وأنا الآن أتساءل، من باب التوكيد على كلام الماغوط: هل سمعتم بكاتب متوسط تعرض لهجوم بالألفاظ، أو لتهديد بالقتل، أو محاولة القتل؟ أبداً، وأنا أعرف شعراء الآن، دواوين أشعارهم لا تصلح لإحماء التنور، ومع ذلك يحتفى بهم، ويستضافون في المهرجانات، ويقبضون من المال الشيء الكثير. وأضيف أن على هؤلاء أن يحمدوا الله في سرهم، لأنه أعطاهم هذا القدر من الموهبة، ويبوسوا أيديهم ويضعوها على رؤوسهم امتناناً.

- والله يا أبو مرداس أنا أشعر أن قطار حياتنا يمشي بعكس الاتجاه.

- نعم سيدي. المهم، يا عزيزي أبو صالح؛ هناك حالات أكثر غرابة من حالة الفتاة ذات الشفاتير، وهي أن يوحي طالبٌ ما لأهله، أثناء تقديم الامتحان، أن علاماته لن تقل عن 230 من 240، وأنه إذا كان التصحيح متساهلاً سيضع الـ 235 علامة في جيبه، ولكن، عند صدور النتائج، تكون المفاجأة بحصوله على 160 علامة فقط!

- كلامك صحيح أبو مرداس. في هذه السنة، بالفعل، حصلت عدة حالات إغماء لطلاب حصلوا على علامات أقل مما يتوقعون.

قال: أنا والله لو كان راسي بقد راسك كنت علقت آرمة الدكتور على باب عيادتي من زمان!

- عندما يغمى على الطالب نفسه، يكون الأمر بسيطاً، وعادياً، ولكنني أريد أن أحدثك عن الأمهات. أنت تعلم أن الأم في بلادنا تشيل الحمل الأكبر من أعباء أسرتها، وهي تفرح أكثر من ابنها إذا نجح، وتحزن أكثر منه إذا تعثر، وقد لخص الشاعر "حسين السيد" هذا الأمر عندما كتب في قصيدة "ست الحبايب" التي لحنها محمد عبد الوهاب لفايزة أحمد سنة 1957:
زمان سهرتي، وتعبتي، وشلتي، من عمري ليالي
ولسه برضه، دلوقتي، بتحملي، الهَمّ بدالي
أنام وتسهري، وتباتي تفكري
وتصحي من الأدان، وتيجي تشقّري

وهذا الكلام صحيح بالفعل، والأم المثالية عندما يراجع ولدُها دروسه تراها مناوبة بين يديه (على الندهة) وكأنه سيد وهي عبدته.. ولذلك، في يوم إعلان النتائج، تختلطُ، في سماء المدينة، أصواتُ الزغاريد، بلعلعة الرصاص، مع زمامير سيارات الإسعاف التي تنقل الأمهات المصدومات إلى المستشفى..

- جميل هذا الوصف.

- نعم. وإنني أتذكر جيداً، أننا ذهبنا، ذات سنة، لزيارة صديق لنا كانت زوجته راجعة إلى البيت من المستشفى الوطني، بعد انهيار عصبي لأن ابنتها حصلت على علامات متدنية، ورحتُ أمازحها، فحكيت للحاضرين حكاية اخترعتها من مخيلتي، ملخصها أن زوجها، صديقَنا، كان في مكان عمله، وأتاه خبر أن زوجته نُقلت إلى المستشفى، ولأنه يحبها حباً جماً، فقد سارع إلى هناك ليتفقدها، وعند مدخل المستشفى قال لموظف الاستعلامات: أريد أن أزور زوجتي التي جيء بها إلى هنا في حالة إسعاف.

سأله الموظف: إسعاف عادي، ولَّا إسعاف بكالوريا؟

- إسعاف بكالوريا.

- علمي ولا أدبي!!!

ضحك أبو صالح وقال: يمكن يكون إسعاف بكالوريا زراعية، أو ثانوية الفنون الجميلة!

تابعت أقول: والأغرب من هذا، ربما، أن أهالينا يتعاملون مع جسم الإنسان على مبدأ الأواني المستطرقة، فإذا باحتْ امرأةٌ ما لجارتها بسر، والجارة أفشتْ السر، تعاتبها قائلة: بطنك يتسع لطنجرة من الكبب والمحاشي والبابا غنوج، ومع ذلك لم يتسع لبضع الكلمات التي ائتمنتك عليها؟

وأنا، يا أبو صالح، كنت متفوقاً في مطلع حياتي الدراسية، وكان لدى أفراد أسرتي تفسير غريب للذكاء، فقد كانوا يرجعونه إلى حجم رأس الإنسان، فإذا كان رأس الولد كبيراً، مثل رأسي مثلاً، يعتقدون أن الدماغ الذي في داخله كبير، ومن ثم يجب أن يكون ذكياً! وبالطبع هذا الكلام غريب، وغير صحيح، فأهالينا أنفسهم، إذا أرادوا السخرية من شخص آخر، يقولون: رأسه كبير ولكنه فارغ.. وأجدادنا القدامى كانوا يشيرون إلى هذا النوع من التناقض في أشعارهم، بدليل ما قاله الشاعر حسان بن ثابت عندما هجا الحارث بن كعب:
لا بأس بالقوم من طولٍ ومن عِظَمٍ
جسمُ البغال وأحلام العصافير

- إلى أين تريد أن تصل من وراء هذه الأمثلة؟

- سأصل إلى ما يسمى (القفلة)، أعني قفلة القصة التي أرويها لك، وهي أن مستواي التعليمي بدأ يتراجع في فترة المراهقة تدريجياً، وحين حصلت على البكالوريا (علمي) لم يكن مجموعي يؤهلني لدراسة الطب البشري، مثلما كان أهلي يأملون، وبصعوبة بالغة، وبفضل العلامات التي أضيفت لأبناء المحافظات النامية تعليمياً، قُبلت في كلية الهندسة المعمارية بحلب، وحتى هذه لم أحافظ عليها، إذ سرعان ما تركتها وعدتُ إلى معرة مصرين، وأخبرت أهلي بأنني سأترك الجامعة إذا لم يوافقوا على نقلي إلى كلية العلوم الاقتصادية. ووقتها؛ راح شقيقي الأكبر يوبخني بطريقة لم يسبق لها مثيل، فتجرأت وقلت له: ولكنك، أنت، تركت الدراسة دون أن تحصل حتى على البروفيه، فلماذا تلومني؟

فقال: أنا والله لو كان راسي بقد راسك كنت علقت آرمة الدكتور على باب عيادتي من زمان!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...