الديمقراطية في السياق الإسلامي

01 يناير 2025
+ الخط -

تعدّ الديمقراطية من أبرز الأنظمة السياسية التي انتشرت في العالم الحديث، حيث ترتكز على حكم الشعب نفسه بنفسه من خلال المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية والتشريعية عبر الانتخابات والتمثيل النيابي في البرلمان والمجالس البلدية...، غير أنّ هذا النظام أثار جدلاً كبيراً في السياق الإسلامي، حيث تواجه الديمقراطية انتقادات من منظورٍ ديني تتعلّق بتعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية. في هذه التدوينة نسعى إلى تحليل هذا الجدل وفهم أبعاده عبر قراءةٍ متأنيّة غير مؤدلجة للعلاقة بين الديمقراطية والشورى الإسلامية.

الديمقراطية، كما ظهرت في الحضارة اليونانية بأثينا القديمة، كانت ناقصة حيث استثنت النساء والعبيد والأجانب من المشاركة السياسية، مما يجعلها نظاماً غير شامل، حيث تطوّرت الديمقراطية الحديثة في السياق الغربي لتشمل مبادئ مثل حكم الأغلبية وحماية حقوق الأقليات. في المقابل تعتمد الشورى الإسلامية على مبدأ التشاور بين أولي الأمر من أهل العلم والحكمة، وترتكز على نصوص قرآنية وأحاديث نبوية تؤكّد أهمية المشورة في اتخاذ القرارات. في حين تعتبر الديمقراطية الشعب مصدر السلطة، تضع الشورى السيادة لله، حيث تعدّ أحكام الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع، هذه النقطة تُظهر اختلافاً جوهرياً بين النظامين، إذ تسعى الديمقراطية إلى فصل الدين عن الدولة (العلمانية)، بينما يقوم النظام الإسلامي على اندماجهما.

بدأ الفكر السياسي في الإسلام مع تأسيس الدولة في المدينة المنورة على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سنة 622م، حيث وضع أسسًا للحكم تقوم على الشورى والعدالة والمسؤولية الجماعية في "وثيقة المدينة" أو "الصحيفة"، والتي تعدّ أوّل دستور مكتوب في التاريخ، أرسى مبدأ المساواة بين المسلمين وغير المسلمين (اليهود والوثنيون) في الحقوق والواجبات ضمن إطار سياسي موحّد. فالشورى كما وردت في القرآن الكريم، كانت حجر الزاوية في الحكم الإسلامي المبكّر (الفترة النبوية والخلافة الراشدة)، كما نصّت الآية الكريمة: "وأمرهم شورى بينهم"، لكن طبيعة الشورى بقيت مفتوحة للتفسير، مما أتاح تعددّية في الفهم، كما تجسّدت الشورى في عصر الخلفاء الراشدين من خلال اختيار الخليفة عبر البيعة، والتي كانت بمثابة تعبير عن إرادة الأمة، وإن كانت محدودة بنخبة المجتمع من الصحابة والوجهاء (أهل الحل والعقد).

ليست الديمقراطية غاية بحدّ ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وهي قيم مشتركة بين الإسلام والإنسانية جمعاء

مع انتقال الخلافة إلى الأمويين ثم العباسيين، بدأت قيم الشورى تخفت لصالح الحكم الوراثي العضوض الذي اعتمد على القوّة العسكرية والولاء القبلي، وفي هذه المرحلة تراجعت المفاهيم المرتبطة بمشاركة الأمة في الحكم لصالح نموذج سلطوي، حيث أصبحت القرارات في يد نخبة حاكمة تعتمد الشرعية الدينية دون آليات مشاركة شعبية فعلية. لكن الفكر الإسلامي لم يتوقف عن محاولة مراجعة الواقع السياسي، إذ شهدت القرون الوسطى ظهور مفكرين مثل أبو الحسن علي الماوردي (974 - 1058 م) في كتابه "الأحكام السلطانية"، حيث قدّم إطارًا لنظام الحكم الذي يُلزم الحاكم بالشورى والعدل، وإن كان ذلك في سياق سلطوي (العهد العباسي الأخير)، كما أضاف عبد الرحمن بن خلدون (1332- 1406م) لاحقًا رؤية اجتماعية وسياسية أكثر عمقًا، تُنبّه إلى أهمية العدالة الاجتماعية أساس لاستقرار الحكم، حيث يقول: "العدلُ أساسُ الملك".

مع دخول المجتمعات الإسلامية عصر الاستعمار والتحديث، واجهت فكرة الديمقراطية تحديات جديدة، فقد ظهر تياران رئيسيان: الأوّل يسعى إلى تأصيل الديمقراطية داخل الأطر الإسلامية، والثاني يراها منتجًا غربيًا غير ملائم للسياق الإسلامي. حاول التيار التأصيلي إيجاد نقاط تقاطع بين الديمقراطية والشورى، حيث رأى مفكرون مثل عبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وحسن البنا أنّ الديمقراطية ليست غريبة عن الإسلام، بل يمكن إعادة صياغتها بما يتماشى مع مقاصد الشريعة الإسلامية. وبالنسبة لهم الديمقراطية تُحقّق أهدافًا مثل العدالة، والمساواة، ومساءلة الحاكم، وهي قيم أقرّها الإسلام. في المقابل، اعتبر تيار آخر أنّ الديمقراطية تُهدّد الهوية الإسلامية، لأنها تُعطي السيادة للشعب بدلاً من الله، فقد استندّ هذا التيار إلى مفهوم الحاكمية الذي طرحه سيد قطب، حيث رأى أنّ الحكم لله وحده، وأنّ الديمقراطية بشكلها الغربي تُخالف ذلك المبدأ.

العلاقة بين الديمقراطية والإسلام ليست بالضرورة علاقة تضاد، بل يمكن أن تكون علاقة تكامل إذا تم فهمها في سياقها الصحيح

مع ظهور حركات الإسلام السياسي في القرن العشرين، مثل الإخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب وحزب مجتمع السلم فالجزائر...، برزت محاولة جديدة للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام. وهذه الحركات طرحت نموذجًا يمزج بين الشريعة وآليات الحكم الديمقراطي مثل الانتخابات البرلمانية وحرية التعبير وحقوق الانسان، لكن هذا المزج واجه انتقادات داخلية وخارجية. داخليًا: اتُهمت الحركات الإسلامية بتقديم تنازلات على حساب المبادئ الإسلامية، وخارجيًا: تعرّضت لضغوط سياسية من أنظمة سلطوية لا ترغب في التغيير الديمقراطي.

على الرغم من ذلك، أثبتت تجارب مثل تركيا وماليزيا وتونس نسبيًا إمكانية التوفيق بين الديمقراطية والشريعة الإسلامية عبر تبني نماذج حكم تعزّز الحرية والعدالة مع مراعاة خصوصيات المجتمعات الإسلامية، بهذا تبقى الديمقراطية وسيلة لتحقيق الكرامة الإنسانية والعدالة في المجتمعات الإسلامية، ما يتطلّب حوارًا مستمرًا بين دعاة العودة للتراث الإسلامي ودعاة الأخذ بقيم الحداثة الغربية، هذا الحوار يجب أن يكون صادقًا، لا يخضع للإملاءات الخارجية ولا ينغلق على نفسه، فالديمقراطية ليست غاية بحدّ ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدل والحرية والكرامة الإنسانية، وهي قيم مشتركة بين الإسلام والإنسانية جمعاء.

أخيراً، إنّ العلاقة بين الديمقراطية والإسلام ليست بالضرورة علاقة تضاد، بل يمكن أن تكون علاقة تكامل إذا تمّ فهمها في سياقها الصحيح، فالشورى الإسلامية تمثل بديلاً إسلامياً للديمقراطية، مع الاحتفاظ بمبادئ الحرية والمساواة التي تدعو إليها الديمقراطية، ولتحقيق هذا التوازن يجب على المجتمعات الإسلامية أن تبتكر أنظمة حكم تستند إلى قيمها الدينية والثقافية مع الاستفادة من التجارب الديمقراطية العالمية، ويمكن تلخيص ذلك بمقولة: "ديمقراطية غربية لكن بروح إسلامية".