الدولة السعودية ووهم الشرك
مع قرار السعودية مؤخراً الاحتفاء بـ"يوم التأسيس" ثارت موجة جديدة من محاولات إعادة تأريخ مسيرة الدولة السعودية على أساس غير وهابي، سردية جديدة تبدأ بتولي محمد بن سعود لإمارة الدرعية قبل نحو عقدين من لقائه الشهير مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب والحلف الذي جمعهما في مشروع سياسي ديني عسكري قوي.
في خضم هذه النقاشات استعاد البعض كتاب "الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة" وهو دراسة قيمة وضخمة للدكتور خالد الدخيل بها الكثير من التفاصيل المهمة حول نشوء الوهابية والدولة السعودية. كتاب الدخيل لا يوافق في الحقيقة مزاعم التأريخ الجديد هذا، فهو يقر بأنّ محمد بن سعود لم يكن شخصية مهمة قبل ظهور دعوة الشيخ، ولم يكن يختلف عن عشرات الحكام المحليين الذين تولوا إمارات مدن وبلدات صغيرة مجاورة على مدى 3 قرون من الفوضى التي عمت نجد مع غياب السلطة المركزية. لقد كانت الدعوة هي التي حملت مشروع الدولة وليس العكس، بل لا يمكن تصور تمدد بن سعود خارج الدرعية ولا تصور قدرته على تجنيد الناس إلا بعدما حصل على دعاية دينية حادة تدفع بنظرية جديدة تماماً تقوم على "الجهاد" ضد "المشركين" ونشر "التوحيد".
لكن السردية الجديدة وافقت شيئاً مما أثاره الدخيل وهو أنه بعد الفحص والتمحيص يبدو أنه لم يكن يوجد شرك في نجد أصلاً، أو كان موجوداً بشكل طفيف وغير ممأسس ولا يتطلب بالتالي شن الحروب هذه كلها. فشل فرضية الشرك أدى بالدخيل لطرح فرضية التصدع وأن الدعوة الوهابية والمشروع السعودي حركهما التغير الاجتماعي الضخم والطويل الذي أصاب نجد بحالة مزمنة من الفوضى والاضطراب، أي أنه كانت هناك عوامل دفينة هي المحرك الحقيقي لكل ما جرى، وقد جانب الدخيل الصواب في ذلك في رأيي.
نعم لم يكن هناك شرك بنجد ولم يرتد أهلها للجاهلية، وكانت الحركة العلمية قائمة وقوية ومرتبطة بالمراكز العلمية الاسلامية حولها في العراق والحجاز وغيرهما. المشكلة ليست أنه لم يكن هناك شرك في أرض الواقع المشكلة أنه كان يوجد شرك في النظرية الوهابية، وهذا هو صلب الموضوع. النظرية التي أسسها ابن عبد الوهاب سترى الشرك حيث لا يوجد وسترى المشركين في المسلمين، بل ولا تزال كذلك إلى اليوم حيث لو نظرنا بمنظارها واعتقدنا اعتقادها لتوصلنا لنفس النتيجة من شيوع الشرك اليوم في حواضر العالم الإسلامي كلها تقريباً.
لعل تزوير التاريخ السعودي اليوم وتشريع خرافة "يوم التأسيس" يفتح الباب لمناقشة الأسس المغلوطة التي بُنيت عليها الدعوة الوهابية
هذا ما فات الدخيل ويفوت الكثير من المتحمسين للتاريخ السعودي المبتكر في عهد الملك سلمان، أن الدعوة الوهابية وأنصارها من آل سعود كانوا موقنين في نظريتهم أنهم محاطون بالشرك وبالمشركين وهذا واضح جداً ومتكرر في أدبياتهم ونصوصهم وفي رسائل الشيخ نفسه ثم طلابه من بعده، وكانوا يقولون صراحة بوجود الشرك في نجد والحجاز واليمن ومصر والعراق والشام وبلاد الكرد، بل لا يمكن تصور أن النظرية الوهابية في صورتها النقية ستقول غير ذلك، فهي لا تتعايش مع وجود أضرحة وقباب وموالد وأدعية توسل وحلقات ذكر وطرق تصوف، فكل هذه الأمور وغيرها تنظر لها الوهابية على أنها من قضايا العقيدة الأساسية وقد كتبوا مراراً وتكراراً فيها ولا يزالون.
الخلل يكمن في المنهجية الوهابية نفسها لا في الواقع، كان الشيخ ابن عبد الوهاب قد أتى بمنهج جديد اعترض عليه علماء نجد قبل غيرهم -وهذا ما لا يُذكر اليوم عادة- وقد قال الشيخ صراحة أنه "لقد طلبت العلم واعتقد من عرفني أن لي معرفة وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخبر الذي من الله به وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى"..
لقد كانت نظريته تقول أنه عرف التوحيد دون سند علمي لأن كل شيوخه كفار على الحقيقة لا يعرفون معنى الشهادتين أصلاً، وقد تنبه الشيخ ابن سحيم في حينه لهذا العوار فكتب يقول أن ابن عبد الوهاب "بعث إلى بلداننا كتاباً مع بعض دعاته بخط يده وحلف فيه بالله أن علمه هذا لم يعرفه مشايخه .. وإلا فليس له مشايخ ولا عرفه أبوه ولا أهل قطره فمن أين علمه؟ وعن من أخذه؟ هل أوحي إليه؟ أو رآه مناماً؟ أو علمه به الشيطان؟".
وتضمن الخلط المنهجي في النظرية الوهابية الإصرار على إنزال الآيات المتعلقة بالكفار على المسلمين بسلاسة بالغة وكتب العالم النجدي راشد بن خنين في حينه أن هذه النصوص التي استشهد بها ابن عبد الوهاب "إنما تُطبق في حق من لا يدين بالرسالة المحمدية إطلاقاً. أما هؤلاء الذين يعترفون بأصل الرسالة فعملهم إما سائغ شرعاً وإما أنه لا يصل إلى درجة الخروج من الملة المحمدية أو أنهم يعذرون لجهلهم"، وقد أورد الدخيل رد ابن سحيم ورد بن خنين في كتابه لكنه لم يتنبه لمحورية هذا الموضوع لفهم الظاهرة الوهابية التي أصرت حتى على أن أهل الحرمين قد عمَّهم الشرك ليس لأنه فعلاً قد أشركوا وإنما لأن تركيبة العقل الوهابي ستتوصل إلى ذلك حتماً بسبب أنها بُنيت بشكل معيب.
بالإضافة للدخيل يوجد باحثون آخرون توصلوا لنتائج مشابهة حول غياب أو على الأقل ضعف تواجد الشرك في نجد وفي غيرها، وبالتالي أن الموضوع لم يكن يتطلب قطعاً شن "جهاد" و"غزاوت" وتوطن هاجس الشرك في العقلية الوهابية بشكل هوسي، بل أقصى ما كان يتطلبه ربما بعض التعليم والدعوة. وقبل كلام هؤلاء الباحثين وبعده يوجد لدينا القسم الذي أقسمه النبي محمد صلى الله عليه وسلم "والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي"، فلعل تزوير التاريخ السعودي اليوم وتشريع خرافة "يوم التأسيس" يفتح الباب لمناقشة الأسس المغلوطة التي بُنيت عليها الدعوة الوهابية.