الدور الإنجابي للمرأة... عمل بلا أجر
سبق وقدّم الماركسيون تحليلاً عن مسألة إنجاب المرأة كعمل غير مدفوع الأجر، وهو أمر ساعد في فهم أكثر لظاهرة استغلال واضطهاد النساء في الرأسمالية، وساعد في التحليل النظري حول تسليع المرأة وسبل الوصول إلى مستقبل مناهض للرأسمالية.
وقد أولت الرأسمالية اهتماماً بمسألة إنجاب أيدٍ عاملة ضمن ظاهرة يجري فيها تناسخ الأجيال لاستغلالها في توسيع قاعدة الهرم الرأسمالي، وقد ربطت الماركسية بعلاقة نظرية بين الإنجاب والإنتاج، فكلّما زاد الإنجاب زاد الإنتاج.
وستُحلَّل هذه العلاقة بين الإنجاب والإنتاج، فحتى تكون المرأة منجبة، وتقوم بدورها الرأسمالي في الإنجاب، يجري اضطهادها كي لا تعترض على استغلالها في عمل غير مدفوع الأجر، وهو الإنجاب. ونحن نتحدث هنا عن فترة كانت تعاني فيها المرأة الغربية من الاضطهاد الرأسمالي والاستغلال النفسي والجسدي لها من خلال التزويج.
وإذا ما ربطنا مسألة التزويج كخيار لا مفرّ منه تحت الضغوط الاجتماعية، كمشكلة جندرية حسب الفيلسوفة جوديث بتلر، التي تعتبر أنّ مسألة كون الفرد ذكراً أو أنثى هي خيارات وضعها المجتمع، وجعلنا نختار بينهما، حيث لا خيار ثالث، وهو ما ينطبق على مسألة تقرير المصير لدى المرأة والرجل. فالزواج، هو تزويج ينتج من ضغوط اجتماعية، تفرض على الفرد الزواج والإنجاب، وفي حال كون الهدف منها تنمية الرأسمال، فسندخل في عالم لا نهائي من التحليلات الماركسية المواكبة لكلّ تحوّل، وكلّ التشكّلات الاجتماعية الناتجة من العلاقات المبنية على النوع الاجتماعي والأدوار.
يجب القضاء على النظم الهرمية كونها مساحة لاضطهاد النساء، واستبدالها بعلاقات عمل عائلية مبنية على الأدوار الاجتماعية المتساوية والمنصفة لكلّ من الرجل والمرأة
لقد أرّخت الماركسية العملية الإنجابية على أنّها عمل دون مقابل، وجادلت بأنّه عمل ضمني في العلاقات الرأسمالية عبر التاريخ، وقد شرح ماركس في كتابه "رأس المال" الأمر تحت عنوان دقيق جداً، هو "ما يسمّى التراكم البدائي". فالرأسمالية كانت تدّعي أنّ العملية الاقتصادية التي انبنت عليها تسمّى التراكم البدائي، وهذا المسمّى محض تجميل لما سمّاه ماركس فعلياً المصادرة، لأنّ الرأسمالية تقوم على المصادرة، التي تعتمد على مصادرة ملكية العمّال من أرض وماكينات ومواد خام دون مقابل، ويبقى للعمال قواهم العقلية والجسدية والأجور التي يتلقونها. أمّا الربح الذي يجنيه الرأسمالي، فيسمّى فائض القيمة، لأنه ناتج من عملية استغلال واضطهاد العمال دون مقابل. أمّا الأجور، حسب ماركس، فليست هي المقابل المكافئ لعمل العمال، الذين يعملون في ظروف عمل غير ملائمة، ويعملون بلا حقوق وحركات نقابية.
وتشمل المصادرة التي طرحها ماركس عمليات الاستعمار والاستيلاء على الأراضي والأملاك، واعتبر أنّ أميركا المكتشفة من كريستوف كولومبوس، عندما جرى تطهير سكانها عرقياً، بهدف الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين الهنود الحمر، ليست إلا خدمة للرأسماليين الذين سمّوا هذه المصادرة عملية مراكمة الأصول، أو ما وصفه ماركس بـ"ما يسمّى التراكم البدائي"، فالرأسمالي يمتلك أصول رأس المال الإنتاجية، ويعتبر العمال عبيداً ممتَلكين للرأسماليين، وقد قسّم ماركس العمال العبيد إلى قسمين: عمال منتجين عند الرأسمالي، وعمال مستهليكن للمنتجات الرأسمالية أو السوق الرأسمالي.
وتعتبر الماركسية أنّ خلف كلّ علاقة رأسمالية بين الرأسمالي والعامل هناك علاقة اضطهادية دفينة مختزلة في المنزل على شكل زواج أو أسرة، فالمرأة دورها مهم في الإنتاج الرأسمالي؛ مهم في هذه العلاقة، لأنّ المرأة ستنجب عمّالاً عبيداً للرأسمالية، ومستهلكين لمنتجاتها السوقية.
عندما التحقت النساء بالحركات النضالية البروليتارية المناهضة للرأسمالية، تمكّنَّ من محاربة اضطهاد المرأة في النظام الأبوي الإجتماعي
وعندما تحدّث فريدريك إنجلز في كتابه "أصل العائلة والملكية والدولة" عن النظام الإقطاعي الذي كان يستغل المرأة كعاملة في القطاع الزراعي والنسيج فقط، وتعيل نفسها وأسرتها فقط من خلال الأجور، أما الأرض والماشية والأدوات التقنية في تلك الآونة، فهي ملك للإقطاعي. وفي العالم الرأسمالي، حلّل إنجلز بأنّ الرأسمالية خصّصت دور المرأة ونزعتها من الصورة العامة للعائلة في الزمن الإقطاعي، وأقصتها بعيداً عن الإنتاج الاجتماعي، وخصّصتها كعبد أساسي في المنزل، فإخضاع المرأة ليس إلهياً ولا بيولوجياً حتميّاً حسب إنجلز، إنّما العلاقات الرأسمالية المبنية على الطبقة نفّذت مبادئ النظم الهرمية الجندرية المتنوّعة والمرّسخة لاضطهاد المرأة، وهي مستمدة من الدين والعادات الاجتماعية في المجتمعات الرأسمالية.
وقد اعتبرت الماركسية أنّ تلك النظم الهرمية، ومنها النظام الأبوي "البطريركي"، مكمّل للرأسمالية، وأنّ النظم الهرمية يجب القضاء عليها لكونها مساحة لاضطهاد النساء، واستبدالها بعلاقات عمل عائلية مبنية على الأدوار الاجتماعية المتساوية والمنصفة لكلّ من الرجل والمرأة.
وعندما التحقت النساء بالحركات النضالية البروليتارية المناهضة للرأسمالية، تمكّنَّ من محاربة اضطهاد المرأة في النظام الأبوي الاجتماعي، وقد أدركن أنّ نضالهن يبدأ من المساحة التي يجري اضطهادهنّ فيها لتحقيق الخطوة الأولى من التحرّر من الاضطهاد الناتج من تآزر الرأسمالية والبطريركية.
بلا شكّ، إنّ ما نحن عليه من تحرّر للمرأة اليوم لم ينته بعد، بل يحتمل النقد المستمر في ظلّ استغلال الرأسمالية لشعارات تحرّر المرأة التي تُخفي معالم اضطهاد واستغلال المرأة قسرياً تحت مسمّى الزواج والأسرة والأجور غير المتكافئة، وحرمانها الحقوق الإنسانية، وإقصائها عن التوزيع الأبوي الرأسمالي للأصول المادية، مثل الاستيلاء على حقها في الميراث، وهو ما سنوليه مقالة أخرى تابعة لهذه المقالة القادمة في الأسبوع القادم.