الخيمة القطرية والريادة العربية
منذ سقوط الخلافة الإسلامية وانفراد كلّ قُطر عربي بتدبير سيادته، والحديث عن العرب والعروبة لا يستقيم إلا في سياق الخيبة والنكسة، وبمفردات تمتح من قاموس الجمود والتهميش والكسل... وكلّ ما له صلة بالتخلّف ومشتقاته، الشيء الذي جعل من دعوات الإصلاح والنهوض بعد السقوط تغرق في يمّ التيئيس والتشاؤم واللاجدوى، وطال بذلك أمد انتظار من يقيم أعمدة خيمة الجامعة العربية ويشدّ من أزرها، ويسعى للتمكين لها بين الأمم والشعوب بتحويل الخطابات البليغة بين أروقتها إلى فعل حضاري في دنيا الناس.
إنّ التضخم الحاصل في منسوب الحديث عن الوثبة الحضارية وشروطها يرافقه قصد لا تخطئه العين، أنّ المعني في ذلك دول توّفرت لها الشروط الجغرافية الاستراتيجية، المتمثلة في قلب الجسد العربي وروحه، ويقيم على رأسها زعامة مفوّهة خطابياً، بليغة في سبك مفردات التحرّر والانعتاق والحق في تقرير المصير، وهو معجم كان زبائنه يعدّون أنفسهم الطبقة المتنوّرة والإنتليجنسيا العربية، والباقي عنوانه "تخلف ورجعية". هي ظاهرة أحدثت الكثير من الصدى، ولم يتلاش رنينه إلا بفعل الزمن، الذي أكد عدم فعاليته في دفعنا خارج دائرة العتمة والهامش وردّ الفعل في أحسن الأحوال، إلى دائرة الفعل الحضاري والتأثير العالمي.
واليوم، بعد أن تهاوت الكثير من اليقينيات والمرجعيات، وتراجعت مفاهيم المساحة والموقع والكاريزما كمقومات للزعامة العربية لصالح مفاهيم القيادة الموّجهة بما تمتلك من رؤية مؤثرة، ليس في محيطها الإقليمي فقط، بل العالمي أيضا، وهو ما مثلته دولة قطر، التي سطع نجمها على الساحة الدولية من خلال أدوارها المساهمة في حلّ الكثير من النزاعات الدولية، بالوساطات التي أجرتها، والمؤتمرات التي استضافتها في دوحة العرب. كما أصبحت شبكة الجزيرة رائدة إعلاميا، ومرجعاً للعديد من المحطات الدولية ذات الصيت العالمي، بالإضافة إلى الاستثمارات الاقتصادية التي شملت مختلف المجالات.
أثبتت قطر أنّ التحديث ممكن بلوغه، دون التنكر للتقاليد والقيم والمعتقدات، الصانعة للهوية الحضارية والثقافية
وغير بعيد عن ذلك أيضاً، الاستثمارات الخيرية والتدخلات الإنسانية التي لم تغب عن أي نقطة جغرافية في حاجة إليها، بعدما حققت الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها، حيث اقتربت مؤشرات التنمية فيها من تلك التي تُسّجل في دول مثل هولندا وفنلندا والمملكة المتحدة. ولهذا، هي اليوم قبلة العالم، ومهوى أفئدة جمهور يعدّ بالملايين، تصنع الحدث، وتسوّق القيم عبر بوابة الكرة، التي أصبحت وعاءً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وهو ما استغلته قطر بامتياز في قيادة الوطن العربي لتسويق قيمه، وهي في ذلك تثبت، إن كان الأمر يحتاج إلى إثبات، أنّ التحديث ممكن بلوغه، دون التنكر للتقاليد والقيم والمعتقدات، الصانعة للهوية الحضارية والثقافية.
إنّ التمسك بالهوية الثقافية للأمة لا يتنافى والتخطيط العقلاني المرتكز على المستجدات التكنولوجية، بل يمكن لها أن تساهم في إبرازها بشكل أدعى لترسيخها لدى الأجيال، وإظهار نقط ضوئها وعلامات تنويرها، التي يمكن أن تجرف تلك الصورة النمطية التي راكمها الآخر عنا، لأسباب وعوامل شتى، بعضها يُناقش، ومنها كان بدوافع، بيّن الدارسون والمفكرون تهافتها، وقد كشفت بعضه الصحافة الفرنسية الموجودة بقطر، التي وقفت على زيف ما أحيطت به علماً عن العرب والمسلمين، وهي متوّجهة إلى دوحتهم الشماء. كما تساهم هذه الوسائل التكنولوجية نفسها في تنمية وإثراء الأبعاد الثقافية، وكلّ ما له صلة بالرأسمال الثقافي للأمة، واستثماره في النهوض بأحوالها الاجتماعية والاقتصادية... بما تقدّمه من شحنة إيجابية لمجابهة التحديات، ومشاركة شعوب الأرض في ساحة الفعل والإنجاز. وهذا الأمر لا يحدث مصادفة، إن لم يكن خاضعاً لرؤية متبصرة بالمستقبل ورهاناته، كما تضمنته "رؤية قطر 2030"، التي جعلت من "التحديث مع المحافظة على التقاليد"، إحدى التحديات التي ينبغي رفعها.
رؤية راهنت على المستقبل، لإسعاد الإنسان، وحماية مقومات الحياة
ولا تقل مساهمة العرب العلمية، انطلاقا من الدوحة، عن مساهمتهم الأخلاقية، فإتاحة الفرصة للمهندس السوداني سعود عبد العزيز لتكييف ملعب الخيمة بتقنيات مستحدثة، ستكون لها بصمة في مواطن أخرى غير عربية، مبرزة بذلك قدرة العرب على تنظيم التظاهرات العالمية، بتوفير الشروط والمقومات، مهما بلغت كلفتها، ليست المادية فقط، بل والعلمية والتكنولوجية أيضا.
أيضا، نجحت قطر في تنظيم تظاهرات بيئية وسياسية واقتصادية من خلال تسخير الطاقات المحلية في التأطير، وإخضاع المعطيات التكنولوجية في تدبير فعالياتها، مع أخذ حماية البيئة بعين الاعتبار، استمداداً لما تزخر به من طاقة، وبما يحفظ استدامتها. نلاحظ هذا في تجهيزات الملاعب والإقامات ومختلف المرافق الرياضية والسياحية، في محطات شحن الهواتف ووسائل النقل... وهي رؤية راهنت على المستقبل، لإسعاد الإنسان، وحماية مقومات الحياة.