الخروج من المأزق السوري
يبدو العنوان حالماً جداً بالنسبة لمقالة واحدة، ولكنني أعتقد منذ فترة طويلة أنّ الخيارات غير التقليدية في السياسة هي خيارات بسيطة وناجعة، ذلك أنّ السياسة هي فن البحث عن المفاجأة وغير المتوّقع والجرأة والمبادرات المربكة. أمّا سياسة التحرّك وفق الأطر التقليدية والمبادرات المتوقعة، فهي سياسة تولد ميتة، ذلك أنّ ما يعيقها موجود بذات السهولة التي توجد فيها هذه السياسة، وأنّ الأطراف المتشابكة غالباً ما تكون جاهزة لهذا النوع من السيناريوهات التلقائية، التي تجعل كلّ فريق أكثر استعصاءً وثباتاً في الجهة التي قرّر أن يتخندق فيها، وعادة ما يكون هدف هذه السياسة هو إطالة زمن أي أزمة وتعميق المأزق الذي وصلت إليه، لا البحث عن حلٍّ أو عن مخرجٍ ممكن.
إنّ الخروج من حالة السكون والخنادق هو خروج يحمل خطورة كبيرة، ولكنه الأمل الوحيد في تحقيق تقدم ما تجاه التغيير والأهداف، بينما الإصرار على الانتظار و(الممانعة) والرفض والصراخ دون البحث عن بدائل ممكنة وحيوية، هو حالة من المنازعة السلبية في انتظار الموت. وإنني أعتقد (من وجهة نظر شخصية على الأقل) أنّ هذا الانتظار هو خيانة للوطن، وخيانة للقيم وخيانة لحركية الحياة، وخيانة لدماء الشهداء ولقضيتهم المقدسة، فالتضحيات العظيمة لم تُقدم في سبيل الانتظار، وفي سبيل السكون، بل من أجل العمل والدأب وتحقيق الأهداف وإحداث، ولو خطوة واحدة في طريق التغيير المنشود، وإن من الخيانة أن تكون هذه التضحيات قد أصبحت سبباً لتعاسة الناس ولمأساتهم بسبب تخاذل القائمين عليها، بدلاً من أن تكون سبباً لسعادة الناس وحريتهم وخلاصهم.
إنّ الخروج من حالة السكون والخنادق هو خروج يحمل خطورة كبيرة، ولكنه الأمل الوحيد في تحقيق تقدم ما تجاه التغيير والأهداف
إنّ إيجاد حل للخروج من حالة الاستعصاء التي وصلت إليها القضية السورية هو فريضة العمل السياسي، وعلى السياسيين أن يعملوا من أجل فهم الواقع وإيجاد أي مخرج ممكن، عجزت عنه حتى الآن كافة الوسائل العسكرية والاجتماعية والسياسية السابقة. وإنّ السير خطوة واحدة هو عمل عظيم، ولو لم يوافق المزاج الشعبي العام، لكن يكفي أن يوافق الضمائر ويحقّق كسراً للجمود الذي نعاني منه، وإنّ هذه المهمة المحفوفة بالمخاطر وباحتماليات التخوين، هي خطوة لن يقدم عليها إلا الصادقون، الذين يبحثون عن خلاص شعوبهم وأوطانهم، والسير في الطريق الشائك تجاه الأهداف، دون أن يكترثوا لسجلات التاريخ والبطولة، أو أن يفكروا في سمعتهم الآنية.
إنّ هذه المقدمة الطويلة تفضي بشكل مباشر لما بعدها، فالمأزق السوري أصبح يحتاج سياسيين يتمتعون بالشجاعة الكافية لكسر كل المُسَلَّمات عن القضية السورية، وللدخول في تحديات جديدة تشمل كلّ المبادرات الممكنة مهما كانت غريبة ومتطرفة سياسياً، ليس أولها الجلوس في حوار مباشر مع نظام الأسد بدون وسطاء، ولن يكون آخرها التفاوض حول بقاء الأسد لمرحلة انتقالية في سبيل تحقيق أهداف أكثر عمقاً وأهمية.
إنّ مواقف أقرب الدول للشعب السوري تتغيّر بتسارع لا تستجيب له المعارضة حتى الآن، وإذا لم تعمل المعارضة على الاستجابة لهذه التغيرات ومحاولة إيجاد موقع لها على الطاولات الجديدة فستبقى وحيدة بعد فترة قصيرة، معارضة متشتتة في المنافي لا تجيد إلا لوك الشعارات وتأبين الضحايا.
معارضة متشتتة في المنافي لا تجيد إلا لوك الشعارات وتأبين الضحايا
إننا اليوم نتعامل مع قضية إنسانية كبيرة تتمثل في وجود عشرة ملايين سوري نازحين داخل سورية ولاجئين في دول الجوار، تهدّد حياتهم اتفاقيات ربما لا تأخذ بعين الاعتبار أوضاعهم الأمنية الخاصة، وليس من الحصافة، ولا السياسة، أن يُتركوا لمصيرهم في الموت والتعذيب، حتى لو أبدوا الشجاعة لفعل ذلك من أجل حريتهم، لأنّ مهمة السياسي إنقاذ شعبه، لا الانسياق وراء العواطف الجياشة ودعوات الصمود والموت المجاني، أو النزوع نحو فقاقيع من أمجاد منفوخة بالتاريخ والتراجيديا والرومانسية، لا تحمل معها أي قدرة على التغيير.
إننا اليوم أمام تحديات قديمة جديدة، أضعنا ما يكفي من الوقت في عالم الأحلام بحثاً عن معجزة لا تضطرنا لأخذ مواقف قد تشوّه التاريخ الناصع الذي كنّا نبنيه لأنفسنا حجراً حجراً، ولكن الحقيقة التاريخية تخبرنا أنّ الإنجاز لم يكن يوماً مبنياً على أساسات ناصعة، لذلك علينا أن نكون شجعان بما يكفي لبحث جميع الخيارات المطروحة دون استثناء من أجل الوصول إلى حلّ (مرحلي) يمنحنا خطوة واضحة نحو الأمام، حتى لو كلفنا ذلك أن نضع أيدينا باليد الملطخة بدمائنا، سننجز هذه المهمة ثم سنتحمل آلام قطع تلك اليد من أجل خطوة أخرى.