الحب لا يصنع المعجزات
بيتٌ لقيس بن الملوّح مجنون ليلى العامرية، مَشهدٌ لروميو وجوليات، أو أي مشهد قد يسلّط الضوء على تلك القصص الخالدة وذلك الحب الناعم الذي يدغدغ النفوس ويراود القلوب.. أيّ شيء من هذا كفيلٌ بأن يفتح في سقف حجرة القارئ أو المشاهد الحالم نوافذ للسماء، ثم لا تلبث باقي النجوم والكواكب وأرواح كلّ العشاق أن تُطلَّ منها فضولًا ورغبةً في سماع تلك الحكاية، ومن ثم دعوة ذلك الحالم ليحلّق معها كطائر سحري يشدو ويفرّ بأغانيه من ظلٍّ إلى ظلّ، ومن غصنٍ إلى غصن في جِنان الجمال الوافرة ورياضها الساحرة، فِرارًا من نِقم ذاك العالم البائس وكوابيسه التي لا تنتهي، وليخفِّف ربّما عن قلبه المُثقل بهموم الحياة، فيستسلم لهذا الطوفان الجارف وهو الذي يقاوم في دنياه فكرة الاستسلام!
تحمله الأجنحة بعيدًا، بعيدًا عن مهامه التي تُكبّله، بعيدًا عن رتابة وظيفته التي تلتهم عمره وكلّفه بها إلحاحُ الفواتير وجنون الأسعار وورطة المسؤوليات التي تحاصره.
ها هو مجدّدًا كالريشة التي لا تَهمُّها خطط الأقدار، وها هو صوته الرقيق وقد تخلّص من حدّته، ومن الصراخ الذي ظلّ يُلازمه.. يدندن ويترنّم، لا يهمه النجاح أو الفشل؛ يركل التوقعات والتوصيات ويطرح الوقار وضجيج الأفكار الذي جعله يفوّت لذّة التهوّر والحماقة والعبث وكم هو مُغرٍ سلطان النزوات!
ثُمّ وفي عودته من معراجه يُلقي نظرة سريعة على زوجته المهدودة من التعب فيقارنها بـ "ولاّدة" عصرها، تلك التي كان يقرأ في منشوراتها المُحبَّرة وتنظيراتها الغرامية المثالية ما يُسيل لُعابه، فيقتنع بمثاليتها المزعومة، أو تلك الفاتنة الآسرة الناعمة.. فيما شريكته الطيّبة المسكينة لا تُحسن شيئًا من هذا، فتصغر في عينه وتتضاءل عنده، ويتساءل بلسان الحال: كيف لا تقول لي مِثل ذلك الكلام الذي أقرؤه عند فلانة، ولماذا لا تتعلّمه وتُحسنه، ولماذا لا تقرأ للرافعي؟ وهكذا تُعميه المفاتن الغاوية التي تخترق ناظريه عن جمال زوجته الذي لا تخالطه شبهة ولا يلحقه طمع؛ فيُحمّلها ما لا تطيق، مدفوعًا وراء ذلك بخيالات وتصوّرات ذهنية لا حظَّ لها من الواقع.
العلاقة الطبيعية فيها الغضب والرضا والنَزَق والرزانة وسوء التصرّف أحيانًا وإحسانه أحيانًا أخرى
وربّما كانت الزوجة هي الأخرى تتابع ذاك الأديب الأريب، فترى تقعُّراته بلاغةً وبيانًا، وكلامَه المُعقَّد حِكمةً وأدبًا، ثم تنظر لزوجها المنهَك المشغول بالسعي لتوفير لقمة العيش لها ولأولادهم، فتشعر بالنقص العاطفي والحاجة إلى كلامٍ تراه منتشرًا بكثرة على قارعة مواقع التواصل.
وربّما استذكرت تلك القُبل التي منحتها دون عاطفة أو تلك اليد الباردة التي لم تعرف يومًا الطريق لخدّيها إلا لتصفعها كما صفعتها الخيبات مِرارًا وحيدةً أمام نافذةٍ مفتوحة وذاكرةٍ مبتورة، إلّا من الفراغات وبعض من الصور الملفّقة تستنجد بها كلما غلبتها العَبرات!
فمهلًا أيها العاشقون وعذرًا أيها الحالمون؛ ماذا لو أخبرتُكم أنّ الحبّ لم يكن يومًا كافيًا لاستمرار الزواج؟
نعم، الحبُّ خلطةٌ غيرُ مأمونة، لأنّ القلوبَ تتغيّرُ مع مشرقِ الشمسِ ومغربها، والمشاعر تذوي وتتبدّلُ مع اختلافِ الليلِ والنهار. وكل من خاضوا التجربةَ يعرفون، وقصصُ الطلاقِ المروّعة التي تلت قصصَ الحبِ الملهمة دليلٌ حاسم. وكم من قصّة حبٍ أحادية الأطراف استنزفت بشرًّا كاملين.
يحتاج الحبّ إلى الثقة والأمان والاحترام ليجابه حوادث الحياة ويرمّم الألم ويزرعَ الأمل
البحث عن العلاقة المثالية عاقبتُه الفشل والمفاجآت غير السارَّة والرجوع بخُفَّيْ حُنَين والنُّكوص على الأعقاب؛ لأنّ المثالية ليس محلها دُنيا البشر، بل محلها، إمّا جنة الخلد في الآخرة، وإمّا المدينة الفاضلة التي رسَمها الفارابي وتوهَّمَها ولم يكن لها وجود في الدنيا. والشخص الطبيعي إنّما يبحث عن العلاقة الطبيعية لا المثالية، والعلاقة الطبيعية هي تلك التي فيها طبعُ الناس الحقيقيّين لا تصنُّعهم وتكلُّفُهم واهتمامهم بأن يظهروا على غير واقعهم الحقيقي؛ فالعلاقة الطبيعية فيها الغضب والرضا والنَزَق والرزانة وسوء التصرّف أحيانًا وإحسانه أحيانًا أخرى، وفيها الخفة والطيش والحكمة والأناة، يثور الشخص فينطق بما لا يصح ثم يهدأ ويعتذر، وتأخذه الدنيا ومشاغلها فيكفُّ مؤقتًا عن مؤانسة شريكه، ثم يشتاق فيغرف له من مخزون قلبه ويُريه لواعجَ وجدِه، وهكذا، فهي خليط من طبائعنا الحقيقية الواقعية، وتعكس حقائقنا الذاتية بعيدًا عن مثاليات الأشعار والقصص والروايات.
فلا تدع الحب يُحيلك فقط إلى الورود والأنغام أو تعتبر أنّه رقصة ختامها العناق والقُبل، فالحبّ يحتاج إلى الثقة والأمان والاحترام ليجابه حوادث الحياة ويرممَ الألم ويزرعَ الأمل.
هناك خلطةٌ سحريةٌ اسمُها الاطمئنان، قد تصنعُ الحبّ، لكنّ الحبّ لا يكفي لصنعها، لذلك فإنّ كلّ ما عليك فعله، هو أن تتمسّك بالحدًّ الأدنى من الصفات التي لا يمكن الاختلاف عليها، وأن تضعَ قدرًا من المودّة وكثيرًا من الرحمة، وأن تدع الحياةَ تمنحُك ما لديها. وحين يصادفُك من يهبُك حالةً كاملةً من الاطمئنان، لدرجة القناعةِ بأنّك قادرٌ على مشاركته الحياةَ في جزيرةٍ منعزلة، ليس فيها سواكُما، وأنت آمن إلى جوارهِ ومطمئن، فـستوقن أنّ (وجعل بينكم مودةً ورحمة) كانت محكمةً طوال الوقت، وأنّها لم تفشل أبدًا منذ بدأت الحياة، وأنك قد وجدت ضالتك.