الحبُّ كاختبارٍ فلسفي
سعيد ناشيد
الفلسفةُ في دلالتها الاصطلاحيّة وفق شهادةِ ميلادها، تعني محبّة الحكمة. هنا، لا ينبغي لنا أن ننسى بأنّ الكلمة الأولى والمفتاحية في التعريف هي المحبّة. ما يعني أنّ هناك شيء ينبغي أن نقعَ في حبّه أوّلًا، وأنّ هذا الشيء ليس مثل سائر الأشياء التي قد تُصيبنا بالملل بعد انقضاءِ زمنٍ معيّنٍ عن الحصول عليها، أو أنّها تُصيبنا بالحزن حين لا نستطيع الحصول عليها، بل هي ذلك الشيء الذي متى أحببناه، فإنّه يمنحنا فرصةَ أن نتعلّم كيف نحبّ أوّلًا، وذلك قبل أن ننطلقَ في سائر تجارب الحبِّ المُقدّر لنا خوضها في هذه الحياة العابرة. وهذا من باب حسن البدء ابتداء.
"الحب تجربة سعيدة"! نؤمن بذلك ونسلّم به تسليمًا، وذلك رغم علمنا بأنّ الحبَّ منبعُ التوترات والفواجع أيضًا، ولعلّ شواهد التاريخ والأدب كاشفة، بل شواهدنا كذلك. من ذا الذي لا يحملُ في قلبه آثار كدماتِ الحبِّ الذي يخطو كقدرٍ أحمق الخطوات؟!
رغم أنّ التجربة خذلتنا في معظم المرّات، إلّا أنّنا نعتقدُ بإصرارٍ عنيد بأنّ الحب تجربة سعيدة في النهاية. ورغم انعدام الأمان في تجارب الحبّ كلّها إلّا أنّنا لم نفقد الثقة في الحب. فيا لطيبوبتنا! لكن، هل هناك فرصة فعليّة وواقعيّة لحبٍّ آمنٍ، أم أنّنا مجرّد كائنات مازوخية بأقنعةٍ رومانسيّة؟ ألان باديو، والذي هو من فلاسفةِ الحبِّ، يؤكّد بنفسه بأنّ حبًّا آمنًا لا يوجد، وكلُّ ما علينا فعله هو أن نتحمّل الأوجاع بروحٍ قتاليّةٍ. شخصيًا، كنت أتفق مع هذا الرأي قبل أن أقرّر قلب الرهان. ما الذي تغيّر بالنسبة لي؟ بكلِّ بساطةٍ انتبهتُ إلى ما كنتُ غافلًا عنه: إذا كان هدف الفلسفة العملية أن ينعم الإنسان بالسلام الداخلي (الأتراكسيا)، فلا مبرّر للتخلّي عن هذه الخدمة حين يتعلّق الأمر بالواقعين في الحب. وما أكثرهم، ما أحوجهم!
هل هناك فرصة فعليّة وواقعيّة لحبٍّ آمن، أم أنّنا مجرّد كائنات مازوخية بأقنعةٍ رومانسيّة؟
من وجهةِ نظر البيولوجية التطوّريّة، فإنّ الطبيعة لا تريدُ أن تمنحَ للإنسان فرصة حبٍّ رومانسيٍّ خالص. الطبيعة لا تعنيها سعادتنا في أيِّ شيءٍ، إلا أنّ سعادتنا ينبغي أن تعنينا طالما أنّها رهاننا. أن يقول شخص لآخر "أحبّك" بنحوٍ روحيٍ أو عقليٍ أو إنسانيٍ أو إبداعيٍ، أو أحبّك في الله، فذلك كلّه لا يعني للطبيعة سوى ضياع الوقت! الطبيعة تسعى إلى الثمن الذي تريده على الفور، وهو التناسل، حتى ولو انتهت اللعبة إلى حملٍ غير مرغوب فيه. الطبيعة قاسية بما يكفي لئلا تدرج سعادة الإنسان ضمن أجندتها المعلنة أو غير المعلنة. غير أنّ الإنسان صار اليوم قادرًا على الفصل بين علاقة الحبّ وعلاقة التناسل، وقد أعانته موانع الحمل كثيرًا، وفوق ذلك منحه تطوّر العقل فرصة التحكّم في غرائزه، ما أتاح له إمكانيّة أن يعيشَ قصص الحب خارج الضرورة الطبيعيّة، وهو بمثابة انفلات لا ترضاه الطبيعة، لذلك تحاول أن تقضّ مضاجعه وتبعث العواصف في كلِّ بحار الحبِّ التي يركبها، وذلك حتى يفقد تركيزه على قصص قد تكون شيّقة بالفعل لكنها لا تفيد التكاثر. إنّ تلك الفتاة الهولندية التي تعرّفت عليها في لقاءٍ عائليٍ قبل سنوات، والتي وقعت للأسف في عشقِ رجلٍ جهاديٍّ ساقها إلى أرض اليمن وأنجبت منه خمسة أطفال، قبل أن تستيقظَ من استيهاماتها الخطرة وتفرّ عائدة إلى موطنها هولندا، هي نموذج لمكرِ الطبيعة حين يفقد المرء سيادته على نفسه، فيبيعُ كرامته الإنسانيّة، وينسى وجود حتى موانع الحمل.
حين نفتّتح تجارب الحب بمحبّةِ الحكمة، فإنّ غريزةَ الحبِّ لدينا سرعان ما تتشرّب أهم خصائص الحكمة، ومن ثم نكون قادرين على التحكّم في ذواتنا بهذا القدر أو ذاك، أثناء كلّ تجارب الحبِّ التي قد نعيشها، وعلى أمل أن تكون ثريّةً لا كثيرة. وفي النهاية، سنفرض احترامنا على الطبيعة نفسها، وبحيث تتركنا في المقابل نخوضُ تجارب الحبِّ بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الهدوء والسلام الداخلي.
الطبيعة قاسيّة بالفعل، لكنها ذكيّة بما يكفي لكي تحترمَ الأذكياء بعد أن تختبرهم.
لحظة الوقوع في الحب هي أكبر اختبار لكَ سيدي، لكِ سيدتي، لأجل الاستمتاع بتجربةٍ خطرةٍ بأقلّ قدرٍ من المخاطر.