الحاجة لما هو أكثر غرابة من تهريب النطف
يبث على أثير أكثر من إذاعة فلسطينية برامج متخصصة بنقل رسائل ترسلها عائلات الأسيرات والأسرى لأبنائهم وبناتهم، لو كنتَ كمستمع تمتلك الحياد، وإذا جرّبت مرّة الإنصات لأي حلقة عشوائية من أي برنامج من هذا النوع عبر أي إذاعة في أي وقت من تاريخ الشعب الفلسطيني الأسير، فلن تجد ما يفور في نفسك غير الإحساس المتعاظم بالقهر، الكلمات التي تشرق بها الأمهات، أحلام الأطفال ورسائلهم لأمهم المخطوفة منهم، تطمينات الآباء وادعاؤهم المكابرة، الدموع التي ترشح عبر موجات الراديو، إن القهر الذي سوف ينالك أثناء الاستماع لرسائل هذه البرامج هو القليل من القهر الذي يحدث حين يتم تناول هذا الألم العام باستخفاف ودون دقة ودون بذل الجهد للاستغراق في الحالة وتفاصيلها.
وفي الوقت الذي يتطلّع الفلسطيني لأن تُروى قصته بالشكل اللائق، لأن ما تبقى له من حروب الدفاع عن كيانه هي حروب السرد، الرواية ضد الرواية، قصة المكان وأهله ضد قصة إسرائيل الوهمية والمعززة بالأسلحة والمال والخرافات والتطبيع المتدحرج في المنطقة، وبينما نحن ننتظر من يأخذ من سلّة حكاياتنا ويرويها للعالم، يجيء مخرج أحسبه -بحسن نيتي- يقوم عن جهل بالاستيلاء على إحدى حكاياتنا ويلويها ويطعمها للسجّان ويضغط بكل ثقل على جرح مفتوح ينز كل يوم منذ الأزل.
مرة واحدة سوف أذكر اسم الفيلم ومخرجه، ثم سأكتفي بتسميته بالمذكور، ذلك أنني عرفت أن أي دعاية مهما كانت سلبية طالما أنك تنطق الاسم بشكل صحيح فهي دعاية مفيدة. كما أنني أؤكد عليكم أن لا تشاهدوا الفيلم وأن لا تقوموا بدعوة أحدٍ لمشاهدته ففي ذلك إثم عظيم.
ومن واجب الذكر أنني لست هنا لأقوم بنقد وتحليل فيلم أميرة لمخرجه محمد دياب، بل لأبدي استغرابي من النظرة الضيقة لقضية النطف المهربة أو في تعبير أدق النطف المحررة، ربما لأنني أراها بشكل دائم عجيبة من أعاجيب الفلسطينيين الكثيرة. ولا أعجب منها إلا وجود نخبة من الممثلين الفلسطينيين أو أصحاب الأصول الفلسطينية مثل صبا مبارك وعلي سليمان وريم تلحمي.
ثم إني لن أحمّل الفيلم المذكور فوق حمله، لأنه في النهاية مجرد فيلم، بالإمكان تخطيه كما تخطينا محاولات كثيرة في الآداب والفنون في وقت صار من بطولات الدراما والسينما والأعمال البصرية لدى الأشقاء، حكايتنا التي نلمس بوضوح عدم الرغبة في الحديث حولها، وإن تم الحديث فكثير منها يكرر محاولات تضئيل حجم القضية الفلسطينية، تقليل أهميتها وتصغير أثرها على الشعوب، وهذا جهد محموم سوف يؤسِف أصحابَه أنه غير مُجدٍ.
تهريب النطف مسألة شديدة التعقيد، هناك في الأسر ليس لديك أدوات المختبر لتنقل النطفة في ظروف تحافظ عليها من الموت
وحين أقول تضئيل فأنا أصر قبلها على أن أذكر أنها محاولات، تمامًا كما يحاول أحدهم أن يهدم جبلًا بيده المجرّدة، وقد لا أتحاشى مفردة "تشويه"، لكنني أرى أن الفيلم المذكور أدنى من أن يقوم بتشويه حكاية فلسطين.
أنا واعٍ أن هناك حساسية شديدة لدى الفلسطينيين كأي شعب مكسور، ولكن الأمر يزداد جنونًا حين يتم الحديث عن موضوع الأسرى، وبرأيي أن كل الشكوك والاتهامات التي تُثار حول الفيلم مبررة ومقنعة، ولعل وجود ذكر للإنتاج الإماراتي ضمن الإنتاج المشترك للفيلم يزيد الشكوك حوله وحول نيّة صانعيه، والرغبة المحمومة للمشاركة في الأوسكار والدخول ضمن مظلة الاشتراطات السينمائية العالمية، جعل كل تلك الشكوك والاتهامات تبدو مبررة، ووضع طاقم الفيلم في موضع لم يتمكنوا من الدفاع عن فيلمهم في البيان الهزيل الذي نشره المخرج.
تبدأ المشكلة في الفيلم المذكور، من نقطة النظر نحو زاوية المغايرة، وكأن موضوعًا مثل تهريب النطف من تحت الحراسات صار أمرًا مكررًا ينبغي تغريبه وتزويده بالمزيد من الغرابة، هكذا يخطر في بال مخرج عربي أنه من الجميل في الحكاية لو أن بطلة الفيلم التي ولدت من نطفة مهرّبة تكتشف أنها ابنة الإسرائيلي الذي يسجن والدها الأسير بعد أن يتضح انه كان عقيمًا.
بطريقة الأفلام الهندية الرديئة، حين يكتشف بطل الفيلم أن عشيقته التي قَتل لأجلها الرجال والسباع هي أخته في الرضاعة، منطق مغايرة سطحي وهزيل هذا إن افترضنا أن ما حدث في الفيلم المذكور هو نتيجة سقطة وليس وراءها أي خطة مؤامراتية وقد لا تكون مستبعدة.
في الفيلم ليس هناك اعتداء على فلسطين، فلسطين لا يعتدي عليها فيلم متوسط الجودة، لكن المزعج أنه يقوم بالاستيلاء على حكاية أصلًا قد تبدو من الفنتازيا، (تهريب النطف) السلوك المتكرر الذي تحفّه المغامرة.
متى يكون من العادي أن يقوم الناس بتهريب نطفهم عبر القضبان! لكن طاقم الفيلم المذكور رأى أن هذه الفنتازيا غير كافية فأضاف لها توابل أفسدت طعم كل شيء عبر صنع حبكة درامية غبية غير مُستقرئة للواقع الحقيقي، ولا تعرف أهمية ولوعة موضوع الأسرى في نفوس الفلسطينيين، لا تفهم القهر الذي يُحدثه ذكر هذه الكلمة بين الناس هنا، ولم تقدّر مشاعر عائلات الأسرى، ولا هؤلاء البشر المولودين من نطف الأسرى المحررة، وكيف لأجل إحداث المفارقة في فيلم يتلمظ على المشاركة في المحافل الدولية تم وصمهم بالعار والتشكيك بنسبهم لآبائهم دون أي هوادة، وليس التشكيك وحسب بل جعلهم أبناء الأعداء.
ولنفهم أكثر ما هو تهريب النطف، سوف آخذكم في جولة حول أهم ما يواجهه الأسرى وعائلاتهم المقبلون على تهريب النطف؛ تخيّل عزيزي القارئ لوهلة، أنك الآن لسبب أو لآخر، مسجون في غرفة، محكوم عليك أن تبقى داخلها طويل السنين، سجّانك وقتها لم يكن يسلبك حريّتك وهي سرقة كبيرة، لكنه يسلب منك كل شيء، كل أمل، كل حلم وطموح وكل فرصة لأن يكون لك ذريّة، أو كما يقول الأحيائيون أن يكون لجيناتك أمل في الانتشار عبر المستقبل، والأمر ليس مقترنًا بك وحدك، لأن شريكة عمرك التي تعقد عهدًا اختياريًا مع الله أن تنتظرك، سوف لن يكون لها نسل، وفي عز هذه المعضلة، خطر لأحدهم أن يقوم بتهريب نطفة أول أسير، مستغلًا الطب والعلم في جعل الفكرة المدهشة ممكنة. والمصادر الفلسطينية في معظمها تجمع أن فكرة "النطفة المحررة الأولى"، ترجع للأسير عمار الزبن، الذي رزق بابن لقبه الفلسطينيون بـ"سفير الحرية"، فيما يعود الفضل في زرع "النطفة المحررة الأولى" إلى الدكتور سالم خيزران مدير مركز "رزان لأطفال الأنابيب" في نابلس.
في الأوضاع الطبيعية خارج أوقات الاضطرابات يتمكن أهالي الأسرى من زيارة أبنائهم مرة كل أسبوع في مدة أقصاها 45 دقيقة، يتعرضون قبلها لتفتيش دقيق وشامل، يتم الحديث مع الأسرى هاتفيًا عبر زجاج مقوى، ثم يسمح للأسرى بمقابلة أطفالهم ولمسهم في الجزء النزير من المقابلة، حينها يتم توصيل النطف المغلفة كيفما اتفق، يحمل الأطفال النطف ليصبح لهم إخوة وأخوات، أو قد يتم إرسالها مع الأسرى المفرج عنهم بعد تأكيد من الزوجة وذويها وذوي الأسير الأب، حتى يكون إثبات الأبوّة كما وضح لنا العرف والشرع الإسلامي، وليس كما يدعي صاحب الفيلم قاصر النظر.
تهريب النطف مسألة شديدة التعقيد، هناك في الأسر ليس لديك أدوات المختبر لتنقل النطفة في ظروف تحافظ عليها من الموت، فيتم نقلها بأية مخلفات مثل الولاعات البلاستيكية الفارغة وأكياس الشيبس أو الشوكلاته أو عبر عبوة دواء، ومهما بدت الخطة محكمة قد تفشل لأي سبب، كيف يمكن نقل سائل منوي عبر الأسلحة والكاميرات وكلاب الصيد المدربة، والحفاظ على هذه النطفة من الخراب، هذه التعقيدات تجعل المحاولات تتكرر أكثر من مرة وقد تحتاج لسنوات لتكلل إحداها بالنجاح.
على الضفة المقابلة من أسوار السجن يتم نقل النطفة إلى الأطباء وقد تتكرر محاولات الإخصاب حتى ننجح في الحصول على جنين، ويكون الأمر شديد التوثيق والأهمية ويوليه الأهل أهمية كبيرة في التأكد من أن النطفة تعود للأب الأسير، ولا يولون في ذلك جهدًا ومن ضمن ذلك التحقق الطبي.
تحاول مصلحة السجون الإسرائيلية كل جهدها للحؤول دون تهريب المزيد من النطف، ولكنها إن فشلت فسوف يتكفل عصبة من الفيلم المذكور والمنكور، بالإتيان بالإفك تجاه إحدى محاولاتنا المستمرة للنجاة والاستمرار، أما عن ما ينبغي على طاقم الفيلم فعله فهو مفتوح لكن إبداء الغفلة غير كافٍ، وتبرير أبطال الفيلم ودفاعهم عنه غير مقنع، والمطلوب هو الاعتذار الصادق والمتكرر وربما أكثر من الاعتذار بكثير.