الجنون فنون وأساليب
أثبت لنا صديقُنا أبو الجود أنه أقدر من عضو مجلس الشعب السوري "خالد العبود" على العودة بالحكاية إلى المربع الأول. روى لنا في مطلع سهرة الإمتاع والمؤانسة حكاية خاله "خالد" الذي كان نقيباً في الجيش العربي السوري الباسل، وسرحوه، بعدما جرجروه، وحققوا معه، وضربوه ضمن الدولاب، حتى اعترف بأنه كتب على ورقة الاستفتاء الخاصة بحافظ الأسد "غير موافق"، وكانت ورقته هي الوحيدة الشاذة بين أوراق عناصر الكتيبة البالغة ألفاً وثلاثمئةَ ورقة، فالأخريات، كلهنَّ، كُتبت عليهن كلمة "موافق" إما بالقلم، أو بالإصبع المثقوبة المبللة بالدم.
علق كمال على هذا الموقف بقوله إن نظام حافظ الأسد، لو قلتَ له إن إسرائيل دخلت الأراضي السورية، واحتلت منها بضعة كيلومترات، أهونُ عليه من أن يعلم بأن 1299 عسكرياً كتبوا في الاستفتاء (موافق) بينما يوجد عسكري حقير واطي تجرأ وكتب على الورقة (غير موافق)، فهذا العسكري الحقير سوف يسهّل على العدو الإسرائيلي الوصول إلى دمشق، قلب العروبة النابض، خلال 24 ساعة!
أبو الجود رسم لخاله صورة كاريكاتيرية تُمَثِّلُ حالةَ الجنون التي ظهرت عليه منذ أن وطأت قدماه أرضَ القرية بعد تسريحه. قال: كان جايب معه كنزة مرسوم عليها شلعة بَطّ ووَزّ طايرة فوق نهر، وفي رجّال جسمُه كبير وراسه كبير قاعد على طرف النهر وشايل بإيده مَرَا زغيرة، وصاير راس المَرَا لتحت ورجليها لفوق، وتحت الرسمة في كتابة بالإنكليزي ما حدا بكل ضيعتنا عرف يقراها.. وحالق شعره بالموس، ومع هيك كان يجيب مشط، ويقعد عند فتحة الجب، ويمرره على شعره وهوي مبتسم، وطبعاً مانُه بيشيل مراية، لأنه صفحة المي في الجب بتعكس الصورة متل المراية، ويقول لنفسه: لأشوف هالملعونة بدها تحبني ولا لأ؟ أكيد لما بدها تشوف هالشعرات الشقر وهالغرة اللي عم تطير في الهوا بدها توقع بغرامي.. معلوم يا عمي هاي غرة بدر، ياما بنات وقعوا في الحب، ووقعوا في الجب، لما شافوا غرة بدر. أي نعم.
قال كمال: بما أنه أبو الجود قادر يرجَع للمربع الأول اسمحوا لي أعمل استطراد زغير إله علاقة بالغرة.
أبو محمد: إذا بدك تحكي حكاية ما في مانع.
كمال: نعم، حكاية. بزمانه واحد غشيم من عندنا من القرية راح ع إدلب ودخل ع دكان حلاق وقال له: إذا سمحت، احلق لي تسريحة "خف الجَمَل".
الحلاق اندهش، لأنه مو سمعان بهالنوع من التسريحات. وكان ذكي كتير، ولاحظ إنه هالزبون مغفل، فقال له: بدك الصراحة؟ هاي التسريحة لسه ما وصلت ع محافظة إدلب، سمعت إنها هلق ماشية في مدينة حلب، ومو بكل حلب، في صالون حلاقة بشارع القوتلي، لما بتكون رايح عَ الفندق السياحي، على إيدك اليمين، هادا الصالون الوحيد اللي مختص بتسريحة خف الجَمَل!
صفر الزبون وقال: أف. بدك تقدفني ع حلب؟
حنان: في شغلة أنا ما عم إفهمها. طالما خالك بيكره حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، ليش وقف ضد حافظ وصار يعيش هدول التنين؟
قال الحلاق: أنا يا أخوي ما بدي إقدفك، ولا بدي أغشك، هلق إذا بتفتل على كل الحلاقين في إدلب وجسر الشغور والمعرة وسلقين وحارم ومعرتمصرين وأريحا ما راح تلاقي حلاق بيفهم بتسريحة خف الجمل، إذا بدك تسريحة عادية من يلي منعرفهن، اقعود حتى إحلق لك.
أم زاهر: هيك قصص حلوة، وبنفس الوقت بتزعِّلْ.. لما بيشوفوا إنسان غشيم بيستغلوا غشمه وبيلهوجوه منشان يضحكوا عليه.
كمال: معك حق، وهادا النوع من المقالب دخل في الأدب من قديم الزمان، إذا بتتذكري "المقامة البغدادية" لبديع الزمان الهمذاني، فيها واحد بيحتال على شخص مغفل.. لكن هادا الحلاق حقيقةً ما كان قصده يلهوج الزلمة، بس فكر يصعِّبْ عليه المهمة حتى يتنازل عن طلبه، لأن الروحة ع حلب متعبة ومكلفة. لكن الزبون أصر على هالنوع من التسريحة، وعلى الأغلب في واحد خبيث في ضيعتنا مقترحها عليه. راح على حلب، وصار يسأل لحتى وصل عَلى صالون الحلاقة المقصود، وهادا الصالون على فكرة كتير كبير، وراقي، وفيه تلات حلاقين لابسين أبيض على أزرق فاتح، وكان مختص بالتسريحات الشبابية اللي بيعملوها ع "كاتالوك". المهم دخل هاد الزبون وطلب من واحد من الحلاقين يحلق لُه تسريحة خف الجمل، فقال له: هس. وطي صوتك. هاي الكلمة لا عاد تذكرها هون!
قال الزبون: ليش أوطي صوتي؟ الشغلة لا هي عيب ولا حرام. وأنا سمعت إنك الوحيد اللي بتعرف تسوي خف الجمل بكل حلب.
قال الحلاق: بالعكس. كل الحلاقين في حلب بيعرفوا يسووها، ما عداي أنا. وأنا هلق بدي منك طلب زغير، بحسب الموانة.
الزبون: أشو هوي الطلب؟
الحلاق (يقترب منه ويهمس له): إذا حدا طلب منك تقيِّم الصالون تبعنا، خَبّرُه إنه هادا صالون تعبان، ما بيعرف يحلق "خف الجمل"!
أبو الجود: القصة كويسة يا أستاذ كمال، وأنا شي مرة بحكي لك كم قصة عن الحلاقين. المهم خلينا نتابع قصة خالي خالد، كان بعدما يتمرى على فتحة الجب، ويظبّط تسريحته وهندامه، يطلع على أزقة القرية ويعيّش صدام حسين ومعمر القذافي، مع أنه كان يقول إنه بيكرههم متلما بيكره حافظ الأسد وزيادة.
حنان: في شغلة أنا ما عم إفهمها. طالما خالك بيكره حافظ الأسد وصدام حسين ومعمر القذافي، ليش وقف ضد حافظ وصار يعيش هدول التنين؟
أبو الجود: أنا سألته لخالي نفس السؤال، فقال لي إنه هاي الشغلة من "عدة الشغل"، يعني متل لبس القميص اللي عليه رسمة، والقعدة عند فتحة الجب.
قلت له: والله يا خالي ما فهمت عليك.
فقال لي: تعال معي.
وسحبني من إيدي وطلعنا برات الضيعة. قال لي اقعود.
قعدنا أنا وهوي ع الأرض.
قال لي: بيني وبينك؟ أنا مو مجنون، بس ضروري كتير إنه أهل الضيعة يصدقوا إني مجنون، لأن المخابرات في الوقت الحاضر عم يسألوا عني، ولما بيلاقوا كل التقارير اللي بتوصلهم مكتوب فيها إني مجنون، راح يسكروا الملف تبعي، ويناموا ع السيرة. وبوقتها أنا بقدر أعيش حياتي برواق ومن دون ما حدا يشحطني ع الفرع ويحطني في الدولاب. القتل صعب كتير يا عين خالك، والإهانة أصعب بكتير.
قلت له: بصراحة يا خالي أنا فهمت كل قصتك، وما عندي اعتراض ع الشي اللي عم تعمله، بس في شغلة وحدة ما فهمتها. إنته ليش مفكر إنه تعييش صدام والقذافي نوع من الجنون؟
قال لي: هلق أثبت لي إنك مجنون يا ابن أختي. بسورية في إنسان عاقل بيسترجي يعيش حدا غير حافظ الأسد؟ وأنا عم عيش هدول التنين وما عم جيب سيرة حافظ.. هادا أكبر دليل على إني مجنون. فهمت؟