الجسد والفكر بين بنيتين

28 فبراير 2024
+ الخط -

الإنسان كائن عضويّ. وهذه الأعضاء داخل الجسد تعمل كيميائيّاً على الطاقة من خلال تحويل المادّة ذات التركيب الغذائيّ أو الدوائيّ إلى طاقة (بروتين وسكّر وغير ذلك). بل إنّ الجسم/ الجسد يحوّل كثيراً منها من مادّة عضويّة غير نافعة إلى طاقة نافعة، ومن موادّ سمّية إلى دواء. وحين يتسرطن عضوٌ ما تصير بين يديه المادّة النافعة تركيباً جرثوميّاً ضارّاً. وفي أحسن حالات الجسم صحّةً وسلامةً وتغذيةً، فإنّ ثمّة نسبة حتميّة من المادّة التغذويّة ستتحوّل إلى نفقة مهدورة (شحم ودهون) بلا فائدة، وأخرى إلى فضلات مطروحة... هذا في آليّة التكوين البشريّ العضويّ البيولوجيّ؛ فماذا عن آليّة الذهن؟ وهل للذهن بنية تكوينيّة يمكن أن تكون شبيه بالبنية العضويّة؟

كان الفيلسوف اليوناني، أرسطو، من أوائل الفلاسفة الذين نظروا إلى العقل أو الفكر بوصفه آليّة فيزيائيّة عضويّة، منكراً فكرة المُثل الميتافيزيقيّة التي قال بها أستاذه أفلاطون. وهذه النظرة الأرسطيّة يتبنّاها على نحو ما العلم الوضعيّ المعاصر، ذي النزعة التجريبيّة التطبيقيّة. 

وبعيداً عن إنكار البعد الروحيّ للإنسان وطبيعته الميتافيزيقيّة التي تشاطر وجوده الفيزيائيّ العضويّ، نستطيع أن نطمئن إلى تجارب الحياة التي تؤكّد فيما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ نظام الوجود متشابه، وسنن الحياة تقوم على محاكاة ومماهاة بين التكوينين البنيويّين العضويّ والروحيّ، وبين آليّة عملهما. والشواهد أكثر ممّا تحصى.

فالنظام عينه الذي يعمل في أجسادنا نجده يسري على الذهن البشريّ وآليّة تفكيره، وإن لم يكن بيولوجيّاً، لكنّه نظام بنيويّ ذهنيّ متشابه مع قوانين البنية العضويّة؛ فالفكر يحوّل المادّة الفكريّة إلى طاقة، فيجري عليها ما يَجري على الطاقة العضويّة في الجسم من آليّة عمل وتحويل. وهذه المادّة غير العضويّة تتحوّل من مادّة خام غير نافعة إلى تركيب ذهنيّ نافع فاعل. كذلك الأمر، فإنّ آليّة عمله تجعله قادراً على تحويل كثير من الموادّ الضارّة إلى طاقة فكريّة نافعة.

لكلّ فكر نسبة مهدورة لا يمكن استثمارها، فتصير شحماً ذهنيّاً أو فضلات فكريّة مطروحة

وأيضاً، ثمّة لكلّ فكر نسبة مهدورة لا يمكن استثمارها، فتصير شحماً ذهنيّاً أو فضلات فكريّة مطروحة. وكما يتسرطن العضو الحي، فإنّ الذهن قد يتسرطن كلّه أو في جانب منه، فتصير المادّة النافعة ذهاناً سرطانياً وهذياناً فكرياً مؤلماً وقاتلاً له ولمن حوله.

ومثلما أنّ الإنسان الرياضيّ قد يحتاج إلى مكمّلات غذائيّة، معلّبة جاهزة (كبسولات) حتى يبني جسداً عضليّاً مثاليّاً، وثمّة عضلات في الجسد لا تسمح تركيبتها الداخليّة أن يصلها مفعول التمارين الرياضيّة، كذلك الأمر، يحتاج الفكر البشريّ إلى مكمّلات فكريّة جاهزة؛ إذ يستحيل على هذا الفكر أن يكتفي بنشاطه الذاتيّ، ولكلّ منّا ثيماته التي لا تصلها رياضته. 

على أنّ كثيراً من الناس لو فتّشت في أفكارها وآليّة عمل إنجازها لوجدت معظمَها أفكاراً معلّبة جاهزة، استغنى بها أصحابُها عن تعب التحصيل وهمّ التفكير.

ومثلما أنّ هناك نوعاً من البشر مهووس بحجم العضلات المفتولات على حساب صحته وقوته، وليس لديه صبر على مثابرة التمرين وتحمّل ساعات الرياضة ومداومتها زماناً طويلاً، ليحصل في النهاية على عضلات قوية طبيعية بناها أصحابها يوماً إثر يوم؛ عجز عن ذلك، فاستعجل الظهور وآثر البهرجة والنفخ واستسهل السيليكون، كذلك ثمّة فئة مماثلة مهووسة بحجم فكرها وثقافتها ومعارفها، وليس لديها قدرة على صبر رمضان الفكر وصيامه... فهي تستعجل بناءه بالنفخ وحشوه بالسيليكون.

الفكر البشريّ بعضه رياضة وتغذيّة طبيعيّة ذاتيّة، وبعضه مكمّلات جاهزة، وبعضه نفخ وسيليكون

 

ومثلما أنّنا نحن الذين لم نعرف نادياً رياضيّاً للحديد، وليس لنا علاقة بلعبة بناء الأجسام ورياضتها، فيبهرنا صاحبُ عضلات النفخ والسيليكون أوّلَ أمرنا، كذلك أكثرنا ينبهر بسيليكون الفكر وشكله المنفوخ.

لكنْ ما إن تتعلّم أبجديات تلك الرياضة، وعلمها، حتى تتقزّز عينيك وتنفر من تلك الأشكال، وترأف لأصحابه المرضى، الذين بدؤوا بمرض نفسيّ من الشكل المتواضع وسينتهون بمرض جسديّ من سرطان النفخ وحشو السيليكون.

ومثلما يقال "العقل السليم في الجسم السليم"، فإنّ عمل العقل وآليّة حركته كعمل الجسم وآليّة حركته؛ ونحن من معرفة آليّة صحّة الجسد وسلامة أعضائنا نعرف آليّة صحة الذهن وسلامة أفكارنا.

فالفكر البشريّ بعضه رياضة وتغذيّة طبيعيّة ذاتيّة، وبعضه مكمّلات جاهزة، وبعضه نفخ وسيليكون.