الجدل البيزنطي في نسخته العربيّة

08 يوليو 2024
+ الخط -

يُذكر، مجازًا، أنَّ حادثة سقوط القسطنطينية عام 1453 تمخّضت عن جدل ثار بين رجال الدين والمثقَّفين البيزنطيين آنذاك. أمَّا الرواية الأكثر شيوعًا أنَّ المدينة كانت محاصرة من قِبل الجيش العثمانيّ بينما كان يدور نقاش بين رجال الدين حول مسائل لاهوتيّة دقيقة، مثل ما إذا كانت الملائكة ذكورًا أم إناثًا.

كان ذلك حوارًا جوهريًّا - بالنسبة لهم - بدلًا من التركيز على حال المدينة والتهديد الوجودي الذي سيطالها، وإنْ فكّرنا مليًّا في معنى كلمة "جدل" ظهر أمامنا معانٍ عدّة، منها: المفاوضة والمناقشة والصراع والمحاججة لتحقيق الإقناع أو التغلّب على الرأي الآخر دون الاكتراث بمسألة الصواب والخطأ، ويعزّز ذلك مفهوم "الجدل البيزنطيّ" فهو مستمد من الجدالات التي كانت تدور في الإمبراطوريّة البيزنطيّة حول قضايا دينيّة لاهوتيّة وفلسفيّة غير منقطعة، والتي غالبًا ما كانت تنتهي دون حلول واضحة كما ذكرنا.

وفي ضوء ما سبق، وإمعانًا في النظر في وقائعنا اليوم، يمكننا وصف أيّ نقاش مطوَّل وغير مثمِر بـ" الجدل البيزنطيّ" باعتباره نوعًا من الانتقاد للطريقة التي يتمّ بها نقاش القضايا المهمّة التي تتطلّب تركيزًا على جوانب معيَّنة دون الأخرى كي تؤول في نهاية المطاف إلى نتائج حقيقيَّة.

تُفضي كثيرٌ من النقاشات التفصيليّة بشكل مبالغ فيه، والانخراط في فلسفات متشعِّبة مطوَّلة إلى جدالات عقيمة لا تؤدِّي إلى نتائج عمليَّة على أرض الواقع، إنَّ التركيز على الجوانب التي لا تخدم الفكرة الرئيسيّة لن تؤثِّر فعليًّا على النتيجة النهائيَّة للنقاش، وإسقاط مفهوم "الجدل البيزنطيّ" على الحوارات التي يدور رحاها بين النخب والأكاديميين والعامّة والساسة وأشباههم وغيرهم من الأطياف..

الاستماع إلى الضحايا والأخذ بالاعتبار -وبشكل جدَّي وأساسيّ -آرائهم، ومقارباتهم لا تُعتبر ضرورة مُلزِمَة فحسب؛ بل هي حجر أساس يُبنَى عليه

مثال حيّ فيه توصيف للمشهد الكبير المتعلِّق بالحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة، وكثير من قضايانا على الصعيد المجتمعيّ تتطلّب جدًلا مشروطًا بمنطق وفلسفة حكيمة ولغة مفهومة؛ إنْ أردنا التوصّل إلى نتائج مُرضية مُقنِعة يقبلها العقل ويتعقّلها القلب، ولا تكاد تغيب حرب الإبادة وهولوكوست غزّة عن أذهاننا وأفكارنا؛ إذْ إنّها -حقيقة- مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بجوهر الإنسان وغاية وجوده، فهي ليست مسألة سياسيّة محضة، بل إنّها قضيّة تستلزم النظر فيها على الأصعدة كافة، فكما نرى أنّ عددًا من علماء الاجتماع واللغة والفلسفة والمنطق والبيداغوجيا وعلم النفس ..إلخ تناولوا القضيّة ممثَّلة بأحداثها بالتحليل والطرح والتأطير كلّ بحسب اختصاصه وميدانه.

وحين نأتي لنطرح مبحث اللغة في هذا السياق، الذي يتداخل مع المباحث -على اختلافها - في نقاط عدّة، فبداية من لغة السياسي ولغة المقاوِم ولغة الضحية ولغة المكلوم ولغة المحروم ولغة الجمهور، علاوة على لغة العوام والمثقّفين، كلّ ما سبق يشكِّل خطابا ظاهرا في لفظه، كامنا في معناه، حسبنا -اليوم - جميعًا بلا استثناء - نخبًا وعامّة ومثقّفين ودبلوماسيين- أن نضع أنفسنا مكان المكلوم ثم نتريّث قليلًا قبل أن نُسقِط علومنا ونتشدّق بآرائنا، فبدلًا من الانغماس في تفاصيل هي أقرب ما تكون مدعاة للمناكفات ينبغي البحث عن حلول منطقيّة عمليّة تستجيب للاحتياجات الإنسانيّة المُلحَّة بالدرجة الأولى، كما وينبغي تجنّب الشخصنة والجنوح نحو المهاترات واللّغة الاستفزازيّة التي تتبنّى منهجيّة إثبات وجهة النظر فقط بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، ولا نبالغ حين نقول أنّنا وإنْ اجتهدنا في التحليل والتنظير والإسقاطات والتنبؤات لن تُثرِي فلسفاتنا ولا منطقنا عقليَّة مكلوم ومقهور ونازح يرزح تحت سماء تغطيها طائرات حربيَّة وتعزِّزها طائرات إذلال وحواريَّات مثقَّفين ومنظِّرين.

فكلّ تنظير بلا تطبيق ولا فعِل يبقى حبيس كلمات لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وهذه الحقيقة التي يتعامى عنها الكثيرون من النخب الفكريّة قبل غيرهم. وهذا لا ينفي أهميّة الكلمة؛ بل إنّنا أحوج ما يكون إلى صدى هذه الكلمة وأثرها على الجمهور، ولكنّ لا بدّ أن يكون الخطاب -أيًّا كان شكله ومنهجه- متبوعًا بنتائج حقيقية، وبناء على ذلك يبقى التأطير والتنظير مرهونًا بجواب السؤال: ما مدى تأثير المقاربات المطروحة على واقع الحدث؟ وهل شكّلت تلك المقاربات مخرجًا - وإنْ كان جزئيًّا -للتخفيف من وطأة المأساة؟

يشكِّل الاستماع إلى صوت الضحايا والمكلومين أهمّيّة قصوى، وهو جزء لا يتجزأ من أيّ محاولة لفهم الصراع وتقديم الحلول، ولا يمكن لأيّ تحليل علميّ أو تنظير أكاديميّ أن يكون أخلاقيًّا في حال لم يتضمّن وجهات نظر وشهادات أولئك الذين يعانون بشكل مباشر من تبعات الحرب.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنّ الاستماع إلى الضحايا والأخذ بالاعتبار -وبشكل جدَّي وأساسيّ -آرائهم، ومقارباتهم لا تُعتبر ضرورة مُلزِمَة فحسب؛ بل هي حجر أساس يُبنَى عليه ما بعده وتُؤتى الحلول والمناقشات في ضوءه، وتبقى الأولويّة له عند تقديم أيّ تحليل سياقيّ شامل ومتكامل.

رولا القطاوي
رولا القطّاوي
من مواليد فلسطين- غزة عام 1997م، باحثة مختصّة بالشأن اللسانيّ والمعجميّ المعاصر. حاصلة على الماجستير في اللسانيّات والمعجميّة العربيّة من معهد الدوحة للدراسات العليا - قطر، لها العديد من المقالات والبحوث المتخصّصة، تتمحور اهتماماتها البحثيّة حول علم اللغة الاجتماعيّ ولسانيّات النصّ، وتحليل الخطاب علاوة على الاهتمام بالدراسات الدلاليّة المعجميّة.