التحسين المستمر.. مفتاح نجاح المؤسّسات التعليمية
يُعتبر مبدأ التحسين المستمر في الإدارة من أهم المبادئ التي تقوم عليها استراتيجية الجودة الشاملة، فهو من أنجع أساليب تطوير المنظّمات الحديثة، خاصة مع سرعة التحوّلات التكنولوجيّة وحركيّة الإبداع والتطوير، كما يمثل عاملًا محوريًّا في بناء نظام الجودة الشاملة بالمؤسّسات الجامعيّة، إذ ينطلق من فلسفةٍ مفادها: أنّ القدرات والأفكار والإبداعات البشرية متجدّدة باستمرار، نظرًا للطبيعة الحيويّة التي يتمتع بها العقل البشري، وهي لا تقف عند حدودٍ ثابتة، فبقدر الاستثمار في هذه القدرات والأفكار الإبداعية وتجسيدها ميدانيًّا، بقدر ما تتحقّق فعاليّة التنظيم وتزداد تنافسيته وجودته بشكل مطّرد. إنّ جوهر فلسفة التحسين المستمر يتمحور حول العناية الكاملة بالموارد البشرية من خلال الاستثمار في التدريب والتكوين، تمويلًا وتطويرًا وتمكينًا.
فالتحسين المستمر إذن، هو فلسفة إدارية عمودها الفقري يقوم على تعميم ثقافة التحسين وتشجيع المبادرة والتجديد والإبداع والإثراء لكلِّ المهام التي يقوم بها الموظفون داخل المنظّمة، عن طريق التحفيز المادي والمعنوي، وذلك بهدف استثمار المعرفة الضمنية المكتنزة لدى العاملين والاستفادة من ملاحظاتهم في تحسين ظروف العمل والقيام بالمهام على أحسن وجه، لتحقيق أقصى الاستفادات التي تُفضي إلى وضع نظامٍ شامل ومتميّز للجودة داخل المنظمة.
ولأجل نجاح سياسة التحسين المستمر يجب العمل على خلق بيئةٍ وظيفيّةٍ تمكينيّةٍ، تتميّز بالفاعلية والقدرة على إطلاق المبادرات وحريّة التفكير والتشاركية في الرأي والقرار، وإرساء قيم تنظيمية قائمة على مؤشّرات الجودة.
لا نجاح لأيّ استراتيجية أو رؤية إصلاحية إلا بوجود العنصر البشري المؤهل والماهر
كما يرتبط مبدأ التحسين المستمر بتطوير ممارسات جديدة وإيجابية للموارد البشرية، تتمحور حول تحسين جميع العمليات والقوانين والإجراءات التنظيميّة. فمرد كلّ تحسين في المنظمة هو التميّز الفكري والمعرفي والمهاري الذي يصنعه العنصر البشري، ولا نجاح لأيّ استراتيجية أو رؤية إصلاحية إلا بوجود العنصر البشري المؤهل والماهر، ولهذا فهو يأخذ حيّزًا كبيرًا من اهتماماتِ المسؤولين عن رسم السياسات، فالمنظّمات الرائدة تسعى دومًا إلى تنمية مواردها البشرية والاستثمار فيها من خلال اتباع الأنشطة التالية: تنمية أساليب الاتصال المؤسساتي، الاستثمار في برامج تدريب وتنمية الموارد البشرية، إرساء ثقافة تنظيمية قائمة على العمل الجماعي والتعاضد الوظيفي، إيلاء الأهمية البالغة لنظام التحفيز وربطه بتحسين الأداء، تشجيع المبادرات الفردية والجماعية الهادفة إلى تطوير أنظمة العمل، التشجيع على مبدأ التعلّم الذاتي والتنويع المهاري.
ولا تزال مؤسّساتنا التعليمية تعاني ضعفًا مزمنًا في أساليب التطوير التنظيمي، ومهارات القيادة، والمقاربات الحديثة لتنمية وإدارة الموارد البشرية، وفق مفهوم الإدارة بالأهداف، مما يتطلّب عملًا جادًّا لإعادة هندسة العمليات الإدارية، والعناية بجودة برامج التدريب، باعتبارها أهم عوامل التحسين المستمر وصولًا إلى ضمان الجودة الشاملة.
فسياسة التحسين المستمر يجب أن تطاول جميع المستويات الوظيفية بالمؤسّسة، لا سيما الفريق الإداري وهيئة التدريس التي تعتبر من أَوْلَى الفئات المهنية المعنية بتطوير وترقية مهاراتها التعليمية والوظيفية بشكلٍ مستمر، فالأستاذ ينبغي أن يكون خبيرًا بمتغيّرات عصره، ساعيًا إلى تنمية معارفه وتجديدها، ماهرًا ومتحكّمًا في لغة العصر وتقنياته، بالحدّ الذي يجعله مقتدرًا في أداء مهامه بالكفاءة المطلوبة.
وتجدر الإشارة هنا إلى دور القيادة الإدارية في إرساء قيم وتطبيقات الجودة على مستوى أداء الموارد البشرية، حيث يجب أن يكون القائد متفتحًا على الموظفين، وحريصًا على إقامة علاقات طيّبة معهم، قائمة على الثقة واحترام القانون، مع مراعاةِ العلاقاتِ الإنسانية بما يخدم مصلحة التنظيم.
كما أنّ العلاقة مع الموارد البشرية يجب أن تقوم على التشاركية والاتصال الفعال، عبر وضع نظام أفقي للاتصال المؤسّساتي وفي كلّ الاتجاهات، وعلى تكامل ووضوح أهداف المؤسّسة وعدم تناقضها مع واقع العمل أو أهداف الموظفين.
وهنا يأتي التأكيد على أهمية التدريب لكونه عنصراً فعالاً في عملية تحديث المهارات وإثراء المناخ التنظيمي بالأفكار والقيم الجديدة والإيجابية، وتحفيز الموظفين عبر تشجيع المبادرات والنقد البناء.
كما أنّ من مقوّمات إدارة التحسين المستمر تجنّب الأساليب القهريّة والتهديديّة، والعمل على تنمية أسلوب الرقابة الذاتية والجماعية للموظفين، فذلك كفيل بتحقيق "الأمن الوظيفي" الذي يحوّل مكان العمل إلى بيئةٍ مثالية لتفجير الإبداعات وخلق الالتزام المهني والانتماء التنظيمي.