البرلماني الذي أصيب بالجنون

15 يوليو 2019
+ الخط -

وصل صديقنا وابنُ بلدنا "أبو رامي" إلى مدينة الريحانية التركية في أوائل سنة 2013، وكنا نحن قد وصلنا قبله بعدة أشهر. استأجر بيتاً بالقرب من دوار السيراميك في الطرف الشمالي من المدينة، من طرف "بازار الأربعاء". ذهبنا، ذات ليلة، للسلام عليه، بعد أن التقى بالأستاذ كمال وعلم منه أننا نسهر بشكل شبه يومي في بيت أحدنا. 

بعد وصولنا، وتبادل عبارات المجاملة، أبدى أبو الجود تخوفه من أن يقتصر أبو رامي في موضوع الضيافة على الشاي والقهوة، فنخرج من هنا، في المحصلة، جائعين، ويذهب هو إلى البيت وينام جائعاً، لأنه لو قال لأم الجود أنا جائع وأريد أن آكل شيئاً سيتشاجران بقوة، ومن الممكن أن يمد يده ويضربها وتترك البيت وتذهب إلى بيت أهلها، ويعرف أبوها وإخوتها أنها تعيش عيشة الكلاب مع رجل لا يكفي أنه لا يحضر شيئاً يؤكل إلى بيته، بل إنه يأتي في آخر السهرة طالباً لنفسه شيئاً يأكله.

قال أبو جهاد: طالما هيك ليش ما جبت معك عشا؟ إن شا الله بتاكل سليماني.. يا خيو بركي كان أبو عمار مو حاسب حسابه يعشّينا؟

ضحك أبو رامي وقال: اتركه يعبر عن رأيه يا أبو جهاد. التعبير عن الرأي ما في عليه جمرك.

قال أبو الجود: ع السريع عملتوا لي إياها رأي وما رأي؟ أي أشو نحنا بيركين في مجلس؟ كل ما في الأمر إني جوعان وبدي شي آكله.

قال أبو رامي: ولا يهمك أبو الجود. أنا في البداية حبيت ألعب بأعصابك. أنا بطبيعة الحال حاسب حساب أنو نتعشى سوا. وكمان جايب معي شعيبيات معمولة بالسمن العربي من إدلب. بس أنا عندي سؤال. 

قال أبو محمد: تفضل اسأل.

قال: أنا سمعت إنكم بتسهروا وبتسموا سهراكن "إمتاع ومؤانسة". ممكن تعطوني فكرة عن هادا النوع من السهرات؟ 

قلت: متل كل سهرات السوريين، كلها مزح وضحك وحكايات واقعية. بس يعني حكاياتنا لازم تكون معبرة وما فيها إسفاف. ومو شرط تبدا الجلسة بحكاية، لاكن في بعض الحالات منحكي فكرة، والفكرة بتاخدنا باتجاه الحكاية.

قال أبو الجود: يعني على مبدأ المتل الشعبي اللي بيقول: المال بيجر المال، والطفر بيجر الأزبال. 

قال الأستاذ كمال: أنا عندي توضيح زغير. في سورية لما كنا نسهر ونحكي كلام مشَكَّلْ ومْلَوَّنْ كنت تلاقي واحد من السهرانين بالصدفة حكى حديث إله علاقة بالسياسة، بهالحالة بيتصدى له كل الموجودين وبيقولوا له: 

- إذا بتريد ما بدنا وجع راس، غَيّرْ لنا هالموضوع رجاء. 

وطبعاً المبررات موجودة، إنو يا أخي أيش بدنا بوجع الراس، والناس قضاها بلاها، وللحيطان آذان.. وفي ناس بيقولوا (عَبَاية).. هاي الكلمة بيقولوها لما بيكون بين الحاضرين واحد مشكوك بأمرُه على إنُّه مُخْبِر أو عوايني. هون في المنفى يا أبو رامي الوضع مختلف.

قال أبو رامي: شلون مختلف؟

قال كمال: هون أحاديثنا يا إما سياسية، يا إما الحديث بيجر الحديث لنوصل للسياسة.

قلت: أنا راح أضرب لك مثالْ للتأكيد على كلام الأستاذ كمال. يعني الواحد بيكون عم يمزح. متل لما قال أبو الجود: عَ السريع عملتوا لي إياها رأي وما رأي؟ أي أشو نحنا بيركين في مجلس الشعب؟ بهالحالة بيتصدى له واحد وبيقول له: ومين قال لك إنه في مجلس الشعب تبعنا مسموح العضو يقول رأيُه؟

قال كمال: في مجلس الشعب السوري، حقيقة، مسموح العضو يقول رأيه، ولازم يقول رأيُه، بشرط يصب رأيه في مصلحة الطغمة الديكتاتورية الحاكمة. وكان في تجارب قليلة لبعض الأعضاء اللي قالوا رأيهم، وكانت النتيجة رفع الحصانة عنهم، وطردهم من المجلس. 

قلت: نعم. في حكاية معروفة، لما اجتمع المجلس بهدف تعديل عمر رئيس الجمهورية من أربعين لأربعة وتلاتين، في سنة 2000، منشان يساووا هادا المختل رئيس جمهورية، بلشوا بوقتها الأعضاء يتسابقوا في تأييد هالعملية، والتصفيق لها، وصاروا يتزاحموا ليقولوا شعر في مديح حافظ الأسد وولده بشار الأسد، إلى أن قام واحد من الأعضاء، اسمُه منذر موصللي، وطلب الإذن بالكلام، وقال ما معناه إنه يا خيو والله ما في عندنا مانع يصير بشار رئيس، بس يا ريت تكون هالعملية منسجمة مع روح الدستور والقانون.. بتعرف بوقتها المسكين عبد القادر قدورة رئيس المجلس أشو صار فيه؟

قال أبو رامي: أشو؟

قلت: ارتعب، وخَشَّب، ومد إيدُه باتجاه العضو منذر وصار يقول: اشهدوا يا شباب، زميلكم منذر موصلي أصابه مَسّ من الجنون! 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...