الأوهام الخادعة في تجميل القباحة

28 يناير 2024
+ الخط -

قصدت نجلاء سوق الملابس المستعملة والمذيَّلة بعبارة ألبسة أوروبية (البالة) المركزي في مدينة دمشق، ثمة أكوام هائلة من الألبسة، أكوام تصيب العين بالغبش وباضطراب الرؤية. وكان وجود الناس، وتحديداً النساء بأعداد كبيرة جداً، عاملاً إضافياً يزيد من ثقل الازدحام وصعوبة الخوض في أزقة المكان الممتلئة بالعربات وبالبشر، ومن صعوبة عملية البحث ضمن الألبسة المعروضة على البسطات التي احتوت على كميات هائلة من الملابس تفوق أعدادها أعداد الأيادي الممدودة بعناية وجدية للبحث فيها، بحيث تغرق الأيادي حتى تكاد أن تختفي داخلها.

يتحول البحث هنا إلى عمل شاق، وكلما اتسعت مساحة العرض وكمياته، ضاقت الخيارات، واهتزت القرارات، لأن الحيرة تغزو العقل فجأة وتسيطر على الوجدان الخاص والعام ويتأثر القرار بالشراء بالسعر واللون والمواصفات ونوع القماش والطول والعرض وكل تفاصيل البضاعة المعروضة والمطلوبة وفق تحديد مسبق للاحتياج. 

وأنت على العربة لا تمتلك فرصة الاختيار وحدك! بل تتداخل وتتشابك الأيدي لتختار قطعة محددة للآخر كمساعدة في البحث ربما! أو لرغبة في إظهار خبرة عنيدة ومتراكمة في الشراء، لكن الأكثر مدعاة للتردد أو النفور هو الضجيج العارم الذي يغلف المكان، أصوات الباعة، أصوات النساء وهنّ يسألن بعضهن عن جودة القطعة أو مدى ملاءمتها لهنّ، صراخ الأطفال وضيقهم وتبرمهم من هول ما يحدث لدرجة أن يغمرهم الخوف والجزع، أصوات أبواق السيارات والفرامل العجولة والمجبرة على التوقف من شدة الازدحام.

ترافق موعد زيارة نجلاء لسوق البالة مع عطلة المدارس النصفية، بعد انتهاء امتحانات الفصل الأول، ولم يكن اصطحاب الأمهات لأبنائهن وبناتهن لمجرد تفسيح الأبناء ولا ملء وقتهم الخالي من الدوام المدرسي والدراسة اللاحقة، بل بسبب أن الأطفال يحتاجون ملابس أيضاً، ووجودهم ضروري للقياس أولاً ولنيل الموافقة، خصوصاً أن أغلب الأطفال يرفضون ارتداء ملابس لم يختاروها بأنفسهم أو لأنها قد لا تعجبهم أبداً.

تحاول الأمهات تشجيع أطفالهن على القبول بالقياس أو بشراء القطع المستعملة بعروض سخية مثل: سأشتري لك قطعتان بدلا من قطعة واحدة!

وعملية قياس الأطفال عملية شاقة جداً، يتأفف منها أغلب الأولاد، وقد تكون مسبوقة برفض مسبق بسبب عدم إعجابهم بقطعة الملابس المنتقاة أولاً، أو بسبب رفضهم قياسها وهي تحمل رائحة البالة بسبب مواد التخزين والتعقيم المضافة لحفظها، أو خجلاً من فكرة القياس بالشارع أمام أعين المارة، في ظل انعدام تامّ للخصوصية، فضلاً عن تدخل الباعة وتعليقاتهم المتملقة والاستعراضية، وتدخّل بعض الزبائن بصورة فجّة، ما يزيد الضغط على الأطفال والطفلات، وقد يدفعهم كل هذا إلى الانسحاب أو البكاء أو اتهام الأم بتهم قاسية ومؤلمة.

تحاول الأمهات تشجيع أطفالهن على القبول بالقياس أو بشراء القطع المستعملة بعروض سخية، مثل: سأشتري لك قطعتين بدلاً من قطعة واحدة! أو: انظر جيداً إليها، إنها تشبه كنزة زميلك أو صديقك أو قريبك فلان! وقد يصل الغضب إلى حده الأقسى حين تقول الأم لأطفالها بنبرة حاسمة: هذا هو الممكن والموجود! عليك الإذعان أو أنك ستبقى عارياً. إنها في الحقيقة عملية ترويض على الإذعان، لأن الطفل مثقل سابقاً بحقيقة العجز المالي عن شراء قطعة جديدة، أو أنه محروم أصلاً تحديدَ خياراته! إنه الترويض على رشّ السكر على الموت التدريجي لمبدأ الحق في الاختيار، ولمفهوم الحق في شراء الجديد، ولو قطعة واحدة كل عام، أو ربما في كل فصل من فصول السنة.

 إن الاعتماد على أسواق المواد المستعملة بصورة قطعية، وإن جُمِّلَت بالبراعة والتوفير والتكيّف، لكنها في الحقيقة عمليات فاشلة لبناء الثقة بالذات أو امتلاك القدرة على العيش، ومبالغة في كسر النفس وإرغامها على أن فنّ الممكن ليس خياراً، بل أمر قسري وإجباري ينطلق من القبول بشراء المستعمل، حتى لو كان لعبة قماشية أو حذاءً أو حتى ملعقة لتناول الطعام.

 مع الوقت تغدو عمليات تجميل قبح الفقر وقساوته تفصيلاً أساسياً في عملية إعادة صياغة الواقع في جوهره غير المتساوي بصورة مشوهة وفاشلة، خصوصاً حين يُفرَض على الفئات الأكثر تهميشاً وعجزاً، كل فعل خارج إرادة الاختيار هو فعلياً تشويه للحقيقة وقمع للأشخاص وتجميل هازئ بالكرامة الإنسانية.

سلوى زكزك/ فيسبوك
سلوى زكزك
مدوّنة سورية تقيم في دمشق. تكتب مقالات وتحقيقات صحافية. وصدرت لها ثلاث مجموعات قصصية. تكتب في مواضيع النسوية والجندر وتهتم بقضايا العنف الاجتماعي.

مدونات أخرى