الأغاني التي أبكت الركاب

02 ابريل 2017
+ الخط -
إن صديقي محمد علي فريكة رجل منحوس، يمسك الذهب بيده فينقلب تراباً، وكلما عمل في مهنة أخفق وتعثرت أمورُه، واضطر إلى هجرها ليشتغل بعدها بصفة موظف أساسي في شركة اللف والدوران الأهلية المساهمة المغفلة.. وهكذا حتى يبتسم له الحظ ويعلق نفسه في مهنة أخرى.

المهم، بعد طول تعب، وشقاء، ولهوجة، وركض كلاب، وذل، وخجل، وبلع ريق، وغبار، وقلة قيمة.. حصل محمد علي، بالواسطة، على شهادة سواقة عمومية. وبعدما حفيت قدماه من اللف والدوران، من كاراج إلى كاراج، ومن مكتب إلى مكتب، رضي أحد الأغنياء من مالكي السيارات، ويدعى أبا قاسم، أن يشغله لديه على ميكروباص يعمل على خط حلب/ إدلب، براتب شهري معقول. ولكنه اشترط عليه أن يكون العمل بإشرافه لئلا يتمادى محمد علي في الاستخدامات الشخصية للميكروباص معتبراً إياه ميكرو الذين خلفوه من آل فريكة ومَن لف لفّهم!

وقد عَلِمْتُ، من بعد، أن أبا قاسم صاحب الميكروباص قد وضع شرط الإشراف على محمد علي لأنه يعرف أنه رجل ظريف، خفيف الظل، فلعله كان يريد أن يبقى قريباً منه لأجل سماع طرائفه وأفانينه و"خَيْلاته"، فيضحك ويروِّح عن نفسه.

قال لي محمد علي بشفافية عالية:

- وأنا، في الأساس، لست سائقاً ولا ما يحزنون، ولكن، ولعلمك، فإن الظروف العاطلة تجعل المنحوس سائقاً، وتجعل الجمل ذا الشفاتير الكبيرة "خطابة"! في بداية تعليمي سواقة السيارة ضربتُ حائطين، ودهست دجاجة مع صيصانها، وكلباً، وتدهورت بي السيارة إلى جانب الطريق وانقذفت من داخلها مترين في الهواء ونزلت في قلب كومة نحاتة. وقد بقيت ضعيفاً في قيادة السيارة حتى اهتديت إلى حل عرضه علي أبو اصطيف الحلبي، وملخصه أن أعتاد أثناء السواقة على سماع الأغاني، وبذلك تنشرح نفسي، ويزول منها الاضطراب، ويصبح إحكام سيطرتي على المقود سلساً كالصلاة على النبي!    

اقتنعت بالفكرة أيما اقتناع، وكانت مسجلة الميكروباص معطلة فأصلحتها، واشتريت عدداً كبيراً من الكاسيتات، وصرت أجلس وراء المقود وأضع كاسيتاً وراء كاسيت، فأنطرب، وأتمايل بجسمي الصغير ورأسي كأنني أسهر في كباريه. وبالفعل وجدت السواقة سلسة، بل إنني أصبحت أشعر أثناءها وكأنني- على حد تعبير الدلوعة صباح- أمتلك القلعة.

وذات مرة حصلت معي القصة العجيبة التالية: 

كنت جالساً عند أحد أصحاب الدكاكين في داخل الكاراج أشرب كأساً من الشاي وأدخن سيكارة ريثما يملأ المعاون الميكروباص بالركاب. ولكن مالك الميكرو أبا قاسم حضر فجأة وأبلغني أن ثمة ركاباً يريدون نقلهم إلى بلدة كفرتخاريم على شكل طلب خصوصي، وقال إنه سيقود الميكروباص إلى حارتهم في حلب، ويأتي بهم ويعود ويسلمني الميكرو كي أوصلهم إلى كفرتخاريم.

وهذا ما كان، أحضر أبو قاسم الركاب، وسلمني الميكروباص، وغادرت الكاراج مسروراً. 

وبمجرّد ما خرجنا من حلب وضعت كاسيتاً لصباح فخري يبدأ بأغنيته "على اليما وعلى اليوم حيلي انتحل يا ويلي". نظرت في المرآة فوجدت أحد الركاب يبكي. استغربت ذلك، ونظرت إلى راكبة تضع على رأسها ملاءة سوداء، كانت تبكي وتمسك بيدها منديلاً وتُدخله تحت الحجاب لتمسح دموعها.. ورأيت أكثرَ من راكب يبكي. أعجبتني هذه الخيلة فمددت يدي إلى المسجلة ورفعت الصوت، وإذا بالبكاء الهادىء يتحول إلى نحيب ينتهي بشهيق وشهشهة! أخرجت كاسيت صباح فخري ووضعت مكانه كاسيتاً لأديب الدايخ. ارتفع معدل البكاء، والركاب الذين كانوا متماسكين في البداية بدؤوا يشاركون الآخرين في البكاء. وأنا تماديت وصرت أعلي الصوت وأبدل الكاسيتات... دواليك حتى وصلنا إلى مشارف كفرتخاريم، فوقف أحد الركاب وأشهر مسدساً وصرخ بي آمراً أن أوقف الميكروباص إلى يمين الطريق حالاً، ففعلت، ووقتها بدا الركاب جميعهم يصرخون بي في آن واحد.. 

بشق النفس فهمت منهم أن معهم في داخل الميكرو رجلاً ميتاً، وأنني قليل حياء، لا أحترم حرمة الموت بدليل إسرافي في سماع الأغاني وتبديل الكاسيتات. ثم أمرني الرجل المسلح بالانعطاف يميناً ودخول المقبرة. 

وبصعوبة بالغة جداً استطعت أن أفهمه أننا إذا أردنا أن ندخل المقبرة ونوصل الميت إلى مثواه الأخير بأمان، دون أن نتعرض لحادث خطير، فإن علينا أن نشغل المسجلة ونرفع الصوت إلى الآخر.    

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة مسلسلة- يتبع

 

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...