الأدب وصينية البطاطس (1)
أدمى يوسف إدريس قلوبنا قبل أن يدمع عيوننا بقصة الخادمة الصغيرة، حفرها في الذاكرة الجمعية وهي تحمل صينية البطاطس، يبتلعها الخوف من سيدتها، مظهرها لا يختلف كثيراً عن الثكلى التي لقيها معروف الرصافي (تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها)، غير أني، وأصدقك القول، لم أرد الحديث عن يوسف إدريس، جاري وابن قريتي، ولا عن الرصافي، وإنما سأحدثك عزيزي القارئ حرفياً عن صينية البطاطس!
قبل نحو 84 سنة، دارت معركة أدبية بين توفيق الحكيم ومحمود تيمور، عنوان المعركة "صينية البطاطس": هل تلزم المرأة بيتها وتعتني بشؤون أسرتها، أم تضرب بسهم في كلّ مناحي الحياة؟
الحكيم يسفّه المرأة في كتاباته، يرى أنّ البيت أولى بها، وأنّ إلمامها بقشور الثقافة الفرنسية لن يضفي البهجة على مستقبلها، وادعاؤها الفكر والفن والمعرفة ليس مطلب شريك حياتها ولا مجتمعها، فهي لا تعرف كيفية قلي البيض أصلاً، وإن جاع زوجها ستبادر بإطعامه "زبدة أفكارها"، قالها على سبيل التهكم، وطالب المرأة بأن تتقن عمل صينية البطاطس، ليس لولعه بالبطاطس، إنما (والقول له) لأنها طبخة سهلة التحضير لا تستوجب كبير عناء.
ولعل القارئ العزيز يسأل: هل كان توفيق الحكيم عدوَّ المرأة حقاً؟ سؤال في محله تماماً، إذ إنّ بعض كتاباته تنافي فكرة عداوة المرأة، من ذلك مثلاً (عصفور من الشرق، عودة الروح، بجماليون، الأيدي الناعمة، إيزيس)، بينما أخرى تشي بذلك مثل (تحت شمس الفكر، الورطة، وكانت الدنيا، سر المنتحرة، وتحطمت حياة، بريكسا أو مشكلة الحكم، حمار الحكيم)، ومن هذه المؤلفات وغيرها اكتسب لقب "عدو المرأة"، ما قد يسبّب إرباكًا ربما تعمّده الحكيم، وربما استحكمت العداوة مدةً، أخذاً بنقيض مبدأ "لأجل عين تُكرم ألف عين".
على صفحات كتابه "توفيق الحكيم في شهادته الأخيرة"، يكشف صلاح منتصر سرّ عداء الحكيم للمرأة، إذ يقول: "إنّ سرّ عدائي للمرأة يعود إلى السيدة هدى شعراوي"؛ فالرجل يهاجم طريقة هدى شعراوي في تشكيل عقلية المرأة المصرية، والفتيات على وجه الخصوص، إذ إنها تزعّمت أول مؤتمر نسائي بمصر، سنة 1938، للمطالبة بحق المرأة في الانتخاب بالبرلمان، وعارض الحكيم المؤتمر، قائلاً إنّ المرأة إن دخلت البرلمان فلن نسمع صوتها فيه، إنما نسمعه في خارجه، وهي لا تستحق المطالبة بالحقوق السياسية، إذ إنها لا تعرف كيف تصنع صينية البطاطس.
لعل في عداوة الحكيم للمرأة حيلة أدبية، فتراه يردّد كثيراً: "أنا لست عدواً للمرأة كامرأة، وإنما لعقل المرأة"، ثم يقول في موضع آخر: "إن عقل المرأة إذا ذبل ومات فقد ذبل عقل الأمة كلها"، فإن حاولت التلفيق والتوفيق بين القولين فلن تجد سوى احتمالية الحيلة الأدبية ربما، الحيلة ذاتها التي لجأت إليها مي الصغيرة لتدخل عالم الأدباء من سرداب لا عراقيل فيه، ولعلك تقول: إن الحكيم في أوج شهرته الأدبية، فلماذا يلجأ إلى حيلة كهذه؟ صحيح أنه ليس في حاجة لها، لكن مناوشة المجتمع والجمهور تبقي الأديب في حالة من النشوة، وتضمن له المشاكسات حالة من التحفز للكتابة ومواصلة الطريق.
مناوشة المجتمع والجمهور تبقي الأديب في حالة من النشوة، وتضمن له المشاكسات حالة من التحفز للكتابة ومواصلة الطريق
حينها، كتب الحكيم على صفحات، المصوّر، مقالاً مؤدّاه أنه لا وجود للمرأة الصالحة في مصر وفق محدّداته التي ساقها، وردّ عليه محمود تيمور، وتوسّعت أطراف المعركة واحتدت المناقشة، وارتأت مي الصغيرة أن تدلي بدلوها على صفحات مجلة الاثنين، وهي مجلة كانت تصدر في مصر، لكن من تكون مي الصغيرة أصلاً؟!
لنجيب عن هذا السؤال، سنعود قليلاً لما قبل معركة "صينية البطاطس"، إذ إنّ فتاة راسلت عدداً من الصحف والمجلات، من بينها مجلة "آخر ساعة"، قالت إنها جامعية متحرّرة تهوى كتابة القصص، لكنها لا تملك الجرأة للكشف عن هويتها، فالأسرة متشدّدة والمجتمع ذكوري متعصّب ضد المرأة، يضيّق عليها الخناق، ويتربص بها الدوائر، وتأسيساً على ذلك، فإنها (والكلام للآنسة مي الصغيرة) أرسلت قصة بعنوان "يوميات مهاجرة"، فإن نشرتها المجلة، فبها ونعمت، وفي المستطاع أن تكتب قصصاً أخرى ترفد بها إنتاجها وتعزّز به حضور المرأة في الساحة الأدبية.
في 1939، ومع "صينية البطاطس"، لم تشأ مي الصغيرة أن تترك الساحة للحكيم وتيمور ومن في درجة شعبيتهما، فأقحمت نفسها في المسألة، ولديها مسوغات تستعصي على الحصر، في مقدمتها أنّ المجتمع متحجّر يبغض المرأة، يريد أن يئد فكرها بعدما أقلع عن وأد جسدها، وأن يسدّ عليها كل طريق وأن يجعلها مجرّد أداة لمتعه ونزواته.
لامس كلام مي الصغيرة وتراً لدى المجلة، (فصادف قلباً خالياً فتمكّنا) على طريقة ابن الملوّح، ونُشرت القصة، ليس ذلك فحسب، بل إمعاناً في التعاطف مع الآنسة، ولدفع شبهة المجتمع الذكوري عن هيئة تحريرها، دبّج رئيس التحرير، محمد التابعي، مقدمة للقصة، رحّب فيها بإنتاج الآنسة مي الصغيرة، متوسّماً فيها الملكة الأدبية، ومتوقعاً لها مستقبلاً منقطع النظير، هكذا قال. تتابعت قصص مي والناس تسأل: من تكون؟ كيف طوّرت هذا الأسلوب؟ وهل يُعقل أن هذه الكتابات باكورة إنتاجها؟ الناس تسأل ولا مجيب عن هذه الأسئلة وغيرها.
بعد سيل من الأسئلة عن هوية تلك الفتاة الجسورة، وولع الناس بهذه الشخصية الغامضة ورغبتهم في التعرّف إليها، ولا سيما أنّ كلّ ممنوع مرغوب، أعلن التابعي أنه لن ينشر حرفاً واحداً للآنسة مي الصغيرة ما لم تعلن عن نفسها. كانت صدمة قوية للآنسة إياها، لم تتوقع أنّ أضواء الشهرة ستأتي بنتيجة عكسية، حينها قرّرت أن تمسك بتلابيب الحكاية؛ فماذا فعلت؟ ولماذا نزل "سهم الله" على كثيرين جرّاء تلك الأحداث؟ وماذا عن توابع صينية البطاطس؟
للحديث صلة، نجيب خلالها عن هذه الأسئلة وغيرها.