افتحوا المعبر.. المعبر مفتوح

21 ديسمبر 2023
+ الخط -

اعتدنا السير بسرديّتنا إلى آخرها أو آخرنا، منطلقين من المخالفة ومتجاهلين ما يُطرح على الجانب الآخر، اكتفاءً بعبء المواجهة عن مشقّة الاشتباك.

نعرف أن أحدهما لا يُغني عن صاحبه، لكنّها طاقاتنا واعتياد المسير المتوازي "ستكون فرصة لنوضّح بعد انتهاء المعركة"؛ فتنتهي وننتهي معها ولا يتّضح شيء ربما حتى لأنفسنا.

نقف هاتفين: "افتحوا معبر رفح". فيردّ واحدٌ بصدق واستغراب: المعبر مفتوح. وبيننا الضبّاط متداخلون مباشرون وإن صمتوا، لكنّهم يفرضون هذا الفاصل الوهميّ بين الناس وبيننا. لم يبدأ شيءٌ في السابع من أكتوبر: لا الاحتلال ولا المجازر ولا الأنفاق ولا حتى المقاومة.

كذلك لم يُفرض الحصار استثناءً على القطاع بعدها، ولم يُستخدم التجويع الحرفيّ المميت عقابًا على تلك العمليّة أو صدىً لها، بل هو مجال التعاطي مع "الأزمة الفلسطينيّة" منذ ميلادها/تفجّرها عربيًّا ودوليًّا باستثناءات نادرة كانت تصيغ التلاعب بالأوراق وإدارة المساومات في كل لحظة على حدة، دون أن تمسّ هذا المجال الطاغي. والمتابع لن تفاجئه خطة "الخطوط الحمراء" التي أقرّتها حكومة الاحتلال منذ سنين في مواجهة غزة، والتي لم يكشف عنها إلا بعد ضغوط وصراعات قضائيّة لتكشف عن الحصار بغرض التجويع بعد تحديد والتحكّم حتى بعدد السعرات الحراريّة التي سيسمح لها بالوصول للقطاع، وتحديد في أي صورة من صور الغذاء، بعد حظر كل ما سوى ذلك حظرًا مطلقًا.

لم تتورّع السلطة، ومن خلفها صبيانها في النوافذ الرسميّة والمترسمنة عن التواقح "اشمعنى مصر؟"، وتتردد خلفهم تساؤلات مشابهة مشبوهة حول معبر رفح في الوقت الذي نعرف أن "الموت جوعًا" أو "البتر بلا مخدّر"، تزامنًا مع أعراض المقتلة العسكريّة، يحدث منذ أسابيع على مرمى بصر، وردًّا على كل صوت منادٍ بوقف هذه الجريمة.

ربّما لأنّه المعبر الوحيد بين سبعة الذي لا يخضع نظريًّا لسيادة الاحتلال، ولأنه المنفذ الوحيد عمليًّا للحياة على القطاع، ليس ابتداء بالوقت الذي أعلن فيه غالانت "لا ماء لا غذاء لا كهرباء لا اتصالات ولا وقود"، ولأنّ كل احتمال لإحباط مخططات العدو بشأن القضيّة (التصفية أو التهجير أو المنطقة المفتوحة..) مرهون بحماية أهل القطاع من النزوح الداخلي وتأمين مقوّمات الحياة الأساسيّة لهم والحفاظ على تشغيل المؤسسات المدنيّة والإغاثيّة التي تضمن العيش والعلاج والبقاء في داخل القطاع، وأخيرًا: لأننا مصريّون، وهذه مسؤوليّتنا المباشرة.

تبلغ حاجة القطاع -تحت الحصار- نحو سبعمائة شاحنة يوميًّا من المواد بين الغذاء والدواء، في ظروف شبه اعتياديّة وبما لا يقارن في ما قبل العدوان الأخير، يعتمد عليها أكثر من 2.3 مليون إنسان، قتل منهم للآن نحو 20000، اعتمادًا كاملاً في كافة مناحي الحياة، وهي حال توافرها لا تغطّي بشكل كامل هذه الحياة التي يجب أن يحياها أهل القطاع كغيرهم من الناس، بل ما قرّره لهم العدو ليسمح فقط بالبقاء على قيد الحياة تحت الحصار والذبول البطيء بلا ضجيج.

ورغم استمرار استخدام هذه الورقة طوال الوقت بيد الاحتلال والسلطة للضغط والمساومة والوصول لاتفاقات تخص العلاقات مع حماس والمقاومة والترتيبات الداخليّة الفلسطينيّة وغيرها، واستمرار الحصار على كلّ صورة طيلة السنوات السبع عشرة الفائتة بلا توقّف، لم تبلغ الحاجة الإنسانيّة بالقطاع ما بلغته اليوم في شهرها الثالث من حرب الإبادة، ولا تدنّى حجم المسموح به إلى هذا الحجم الذي وصّفته المؤسسات الحقوقيّة بـ"حرب تجويع" أو بحسب البيان الأخير لمنظمات الأمم المتحدة عن الوضع الإنساني في غزة "كان بائسا قبل الحرب الحالية، وقد أصبح اليوم كارثيا". أو كما حذّرت مسؤولة برنامج الأغذية العالمي من "مجاعة" قريبة في القطاع. وقبل هذا وذاك ما تكشفه التواصلات المباشرة مع الرفاق والأصدقاء داخل القطاع والذين أصبحوا يتحدّثون منذ أيّام عن "مجاعة" والبقاء لأيام دون أن يدخل جوفهم شيء مطلقًا.

هذا هو الحال وحجم ما يدخل للقطاع لا يتجاوز 1 بالمائة من احتياجات أهله اللازمة للعيش، هذا إن وصل أصلاً خاصّة واستهداف المساعدات بالقصف يسير على وتيرة مقاربة لاستهداف بقيّة أشكال الحياة في القطاع، والذي جعل أعمدة رئيسة في تقديم أو توزيع المساعدات والخدمات الطبية كالأونروا والصليب الأحمر وغيرهما يعلّقون خدماتها في غالب مناطق القطاع بسبب عدم استطاعتهم أو منعهم من ذلك، لكن عندما تكلّم أحدًا عن دور مصر تجاه الكارثة؛ يقول لك: احترامًا لاتفاقاتنا الدوليّة.

وإذا كانت البشريّة فشلت، على وجه ما في اختبار غزّة، فذلك لا يعني أن الكل سواء، وأن عاراً جماعيًّا ستتحمّله البشريّة لشيء خارق فوق إرادة الجميع

ويمكنك ببساطة المرور على اتفاقيّة المعابر لتعرف أن مصر ليست طرفًا فيها بأي صورة منذ انسحب الوفد الأوروبي 2007، احتجاجًا على سيطرة حماس على القطاع، وأنّ المعبر مسؤوليّة مصريّة فلسطينيّة مباشرة. لكن السلطة استمرّت في الرضوخ لالتزامات، فرضتها علاقات مذلّة مع الكيان، وتموضعات في جانبه دائمًا، لا شأن لها بحقيقة الالتزام بالقانون الدولي، ويمكنك بذات البساطة أن تمرّ على عشرات الاتفاقات والنصوص الدوليّة (بما فيها القرارات الأخيرة للجمعيّة العامة للأمم المتحدة) التي تجعل تدفق المساعدات وحمايتها أمرًا مقطوعًا به ولو على ورق، بل إنّك بقليل من الجهد ستدرك مسؤوليّة إضافيّة حال الامتناع عن تقديم/إدخال هذه المساعدات في ظلّ الكوارث الكبرى (يمكنك مشاهدة طوابير لا منتهية من رفح وصولاً للإسماعيليّة على جانبي الطريق لشاحنات ممنوعة من الدخول، كما يمكنك الرجوع لإحصاء الشهداء الذين ارتقوا أثناء الانتظار رغم تضمّن القوائم المسموح بها لأسمائهم، وهؤلاء غير عشرات ممن لن يمنحوا مجرّد فرصة الوجود على هذه القوائم).

لكنّنا سنجد السلطة تتخبّط بين التناقضات فتُنكر الواقع إنكارًا تامًا وتؤكّد أن "المعبر لم يغلق في أي وقت"، ثم تسوق المبرّرات لتمرير المنع باعتباره مسؤوليّة الآخرين، فيتحدّثون عن ضرورة فك الحصار وإدخال المساعدات مثلاً، رغم أنّهم أحد أهم الأطراف المسؤولة مباشرة (قانونيًّا وواقعيًّا) عن هذا الأمر. حتى قررت الناطقة باسم حكومة العدو إحراجهم بالقول: "إنّهم يتلاعبون بكم، تهرّبًا من مسؤوليّاتهم" تعليقًا على منع الصحافيين من الدخول للقطاع، مما جعل منظمة "مراسلون بلا حدود" تتهم مصر بمشاركة الاحتلال في قمع الحقيقة، تمامًا كما تقمع الحياة.

لكنّك بدلاً من القيام بما يجب القيام به انطلاقًا من المسؤوليّة "القانونيّة" قبل الأخلاقيّة والإنسانيّة؛ تشارك، كما دومًا، لا في الخرس الفاضح ولا الحياد تسويةً بين الطرفين، إنّما في المسؤوليّة المباشرة عمّا يجري بالانخراط في خطط "ما بعد" سواء في ما يخصّ الإدارة أو الحال: جدار "أمني" تحت أرضي مضاد للأنفاق أو منطقة أمنية عازلة في سيناء باختلاف اقتراحات مسافاتها، أو حتى بنقل مؤقّت (يعرّفه القانون الدولي كتهجير قسري ويصنّفه كجريمة حرب) سواء في داخل القطاع أو خارجه وسواء تركيزًا في سيناء أو دمجًا وإذابةً في عموم البلاد.

وإذا كانت البشريّة فشلت، على وجه ما في اختبار غزّة، فذلك لا يعني أن الكل سواء، وأن عارًا جماعيًّا ستتحمّله البشريّة لشيء خارق فوق إرادة الجميع (لا نمتلك القدرة على تغييره لكننا نتحمل مسؤوليّته الأخلاقيّة بفوقيّة)؛هناك مسؤوليّة مباشرة يجب أن يتحمّلها أصحابها، بأدائهم أو بامتناعهم، كلٌّ على قدر أثره وفعاليّة الأدوات بيديه.