02 سبتمبر 2024
اعتصام سلمي في العصفورية
حدثني أبو سعيد، الخارج لتوه من العصفورية، حديثاً على قدر كبير من التشويق، قال:
في يوم من الأيام نفذ الزملاءُ المجانين، وكنت أنا واحداً منهم بالطبع، اعتصاماً سلمياً أمام مكتب المدير العام للعصفورية الديمقراطية العليا، احتجاجاً على الضرب العشوائي الذي تعرض له زميلُنا (أبو نبّيرة) على جسده ووجهه كيفما اتفق من قبل جنود العصفورية الذين يعرفون باسم (فدائيي الحاكم المفدى المغاوير)..
واستطعنا، بعد أخذ ورد مع الإدارة، أن نُحْرِجَهم بشأنه، فسمحوا لنا بنقله إلى المستوصف، وأوعزوا إلى الأطباء والممرضين المناوبين بالإسراع إلى تضميد جروحه وكدماته، بعدما تركه الفدائيون ما ينوف عن الساعتين مشلوحاً في الباحة، والدماء تنزف منه، والزلاقط تئز حوله، وتلغ في دمه.
ولكن الحق كله على زميلنا (أبي نبّيرة)، فهو عنيد، ودماغه كما يقول أهل مصر (جزمة قديمة)!.. أو كما يقول أهل حلب: عقلُه صَبّة إسمنت مسلح! وياما نصحته أنا شخصياً، وقلتُ له إن المسايرة ضرورية في بعض الأحيان،.. ولكنه لا يسمع!
فمع أن الاسم الرسمي لعصفوريتنا واضح وصريح، ومكتوب على لوحة كبيرة، بخط الثُّلُث، واللوحة معلقة فوق الباب الرئيسي، وهو: العصفورية العربية (الديمقراطية) العليا.. فقد أصر، الله لا يسامحه، ولا يشفيه، على أن الديمقراطية غائبة، وبنسب مختلفة، عن أغلبية الدول العربية الموجودة على الخريطة!
ضحك أبو سعيد ضحكة موجزة ثم سألني:
- هل تتخيل كيف كان عنترة ابن شداد العبسي يحارب، والسيوف الهندية البيضاء تقطر من دمه، والرماح الشبيهة بحبال الجب تنغرز في صدر حصانه الأدهم، وهو، ضمن هذه الحزة واللَزّة، يتذكر وجه عبلة، فيقذف بنفسه باتجاه السيوف يريد تقبيلها لتخيُّله بأن لمعانها يشبه لمعان فم عبلة؟!
قلت: يا له من خيال رائع!
قال: يا سيدي.. أبو نبّيرة، بعدما قال بغياب الديمقراطية عن معظم الدول العربية، أصبح حاله مثل حال المسكين عنترة، بل أسوأ، فعنترة كان يُضْرَبُ بالسيوف والنبال، وهي أسلحة راقية؛ وأما هو، فلم يبقَ ضمن الحدود الإقليمية للعصفورية عاقل، أو مجنون، مدير، أو موظف، أو سائق مبيت، أو حارس ليلي، أو طباخ، أو فراش، أو كناس، إلا وهاجمه، ووقف ضده..
وقد أمطره هؤلاء، على اختلاف منابتهم ومناهلهم، بوابل من التقريع واللوم والتوبيخ والبصاق في وجهه..! وتطاول البعض منهم، وألقوا عليه (طارشاً) من الأحذية البلاستيكية، والصحون، والملاعق الوسخة، وعقوب البصل والثوم، وقشر الفول والفاصولياء، حتى كادوا أن يطمروه وهو حي..
كل هذا، و(أبو نبّيرة) يضحك، ويتصهصك، ويهيِّص، ويصيح: قيق.. قوق.. قاق.. معتبراً أن هذه الأفعال ما هي إلا خلاف في الرأي، ومثل هذا الخلاف لا يفسد للود قضية، كما علمونا في الكتب المدرسية.
ولكن.. ما إن سمع فدائيو الحاكم المفدى المغاوير بكلمة (رأي)، حتى طاش صوابهم، واندفعوا، مثل الصواريخ العابرة للقارات، باتجاه (أبي نبّيرة)، وشرعوا يخبطونه بأيديهم وأرجلهم والعصي والكرابيج والكابلات النحاسية.. وحينما أفرغوا جام غيظهم وحقدهم فيه، التفتوا إلينا، وحذرونا من الاقتراب منه أو محاولة إسعافه، تحت طائلة (التعبير والتمثيل والتجوير).. وهذه عبارة معروفة في العصفورية وتعني: جعل من يقترب منه (عبرة)، بعد جعله (مثيلاً) له، وإلقائه (بجواره)!
بعد إسعاف الزميل (أبي نبّيرة)، وكان الاعتصام السلمي قد شارف على الانتهاء، طُرحت القضية التي نشب الخلافُ بسببها على بساط البحث.
قال نائب المدير العام، راسماً على وجهه ابتسامة أبوية حانية:
- صدقني يا ابني يا (أبا نبّيرة)، وأنتم يا شباب، صدقوني أن (الديمقراطية) مطبقة في حاكميتنا العربية هذه منذ زمن بعيد.. فنحن لدينا، كما تعلمون، نقابات للعمال والأطباء والمهندسين والفلاحين والمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين، وجمعيات للنسوان، والمعاقين، والصم والبكم، والمعادين للاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وتجمعات لمناهضي العولمة، ومحاربي الماسونية والمجتمع المدني وجماعة كوبنهاجن.. ولدينا أحزاب مناضلة، كلها، من دون استثناء، تؤمن بالحرية والديمقراطية والتعددية، وتعادي الاستعمار ومخططاته الرامية إلى اقتلاع شعبنا المعطاء من جذوره، وهي أحزاب مستقرة، بدليل أن قياداتها ما تزال على رأس عملها منذ عشرات السنين، ولدينا برلمان منتخب، الله وكيلكم منتخب، وأنا شخصياً كنت في لجنة فرز الأصوات، وأعرف ذلك حق المعرفة.
وحينما شعر نائب المدير العام أن كلامه قد سَحَرَنا نحن المجانين، وأبا نبّيرة من جملتنا، قال:
- تفضل يا ابني، يا (أبا نبّيرة)،.. إذا كان لديك أي سؤال، أو استيضاح، فأنا جاهز للإجابة والتوضيح.
ههنا كان فدائيو الحاكم المفدى المغاوير واقفين حول أبي نبّيرة على هيئة دائرة واسعة، أخذت تضيق تدريجياً حتى أصبح وجهُه وجسدُه في مرمى أيديهم وأرجلهم وسياطهم، وقد بدأ أبو نبّيرة الكلام، ولكن معظم الجمل التي بدأها لم نستطع أن نفهم نهاياتها، لأن الفدائيين كانوا يلطمونه وهو في منتصف الجملة فيصيح: آخ، وتذهب بعض الكلمات، وبالأخص في أواخر الجمل في خبر (كان).
قال إنه مصر على غياب الديـمـ....، بدليل:
- أن وجود النقابات في البلد ليس دليل ديمقـ.. (لطمة).. لأنها غير مستقـ .. (لطمة)!
وأن الانتخابات التي (لطمة).. غير نزيـ .. (لطمة).
وأن مناهضة الاستعمار والمخططات الإمبريالية لا يكون بالكَلا... (لطمة).. والشعارا.. (لطمة)!
لم يستطع أبو نبيرة أن يكمل تعداد البنود الخاصة به كلها، ذلك أننا نحن المجانين اغتظنا منه أيضاً، وطلبنا من الفدائيين أن يقفوا جانباً، وشرعنا نعجقه بأرجلنا، ثم تركناه مسجى على الأرض.. وانطلقنا في مسيرة عظيمة طفنا بها أرجاء العصفورية ونحن نهتف بحياة الديمقراطية الموجودة في حاكميتنا، فنحن، في الحقيقة، لسنا بحاجة إلى استيراد ديمقراطيات أخرى لا تتناسب مع مجتمعاتنا العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية (عصفورية) 2010
في يوم من الأيام نفذ الزملاءُ المجانين، وكنت أنا واحداً منهم بالطبع، اعتصاماً سلمياً أمام مكتب المدير العام للعصفورية الديمقراطية العليا، احتجاجاً على الضرب العشوائي الذي تعرض له زميلُنا (أبو نبّيرة) على جسده ووجهه كيفما اتفق من قبل جنود العصفورية الذين يعرفون باسم (فدائيي الحاكم المفدى المغاوير)..
واستطعنا، بعد أخذ ورد مع الإدارة، أن نُحْرِجَهم بشأنه، فسمحوا لنا بنقله إلى المستوصف، وأوعزوا إلى الأطباء والممرضين المناوبين بالإسراع إلى تضميد جروحه وكدماته، بعدما تركه الفدائيون ما ينوف عن الساعتين مشلوحاً في الباحة، والدماء تنزف منه، والزلاقط تئز حوله، وتلغ في دمه.
ولكن الحق كله على زميلنا (أبي نبّيرة)، فهو عنيد، ودماغه كما يقول أهل مصر (جزمة قديمة)!.. أو كما يقول أهل حلب: عقلُه صَبّة إسمنت مسلح! وياما نصحته أنا شخصياً، وقلتُ له إن المسايرة ضرورية في بعض الأحيان،.. ولكنه لا يسمع!
فمع أن الاسم الرسمي لعصفوريتنا واضح وصريح، ومكتوب على لوحة كبيرة، بخط الثُّلُث، واللوحة معلقة فوق الباب الرئيسي، وهو: العصفورية العربية (الديمقراطية) العليا.. فقد أصر، الله لا يسامحه، ولا يشفيه، على أن الديمقراطية غائبة، وبنسب مختلفة، عن أغلبية الدول العربية الموجودة على الخريطة!
ضحك أبو سعيد ضحكة موجزة ثم سألني:
- هل تتخيل كيف كان عنترة ابن شداد العبسي يحارب، والسيوف الهندية البيضاء تقطر من دمه، والرماح الشبيهة بحبال الجب تنغرز في صدر حصانه الأدهم، وهو، ضمن هذه الحزة واللَزّة، يتذكر وجه عبلة، فيقذف بنفسه باتجاه السيوف يريد تقبيلها لتخيُّله بأن لمعانها يشبه لمعان فم عبلة؟!
قلت: يا له من خيال رائع!
قال: يا سيدي.. أبو نبّيرة، بعدما قال بغياب الديمقراطية عن معظم الدول العربية، أصبح حاله مثل حال المسكين عنترة، بل أسوأ، فعنترة كان يُضْرَبُ بالسيوف والنبال، وهي أسلحة راقية؛ وأما هو، فلم يبقَ ضمن الحدود الإقليمية للعصفورية عاقل، أو مجنون، مدير، أو موظف، أو سائق مبيت، أو حارس ليلي، أو طباخ، أو فراش، أو كناس، إلا وهاجمه، ووقف ضده..
وقد أمطره هؤلاء، على اختلاف منابتهم ومناهلهم، بوابل من التقريع واللوم والتوبيخ والبصاق في وجهه..! وتطاول البعض منهم، وألقوا عليه (طارشاً) من الأحذية البلاستيكية، والصحون، والملاعق الوسخة، وعقوب البصل والثوم، وقشر الفول والفاصولياء، حتى كادوا أن يطمروه وهو حي..
كل هذا، و(أبو نبّيرة) يضحك، ويتصهصك، ويهيِّص، ويصيح: قيق.. قوق.. قاق.. معتبراً أن هذه الأفعال ما هي إلا خلاف في الرأي، ومثل هذا الخلاف لا يفسد للود قضية، كما علمونا في الكتب المدرسية.
ولكن.. ما إن سمع فدائيو الحاكم المفدى المغاوير بكلمة (رأي)، حتى طاش صوابهم، واندفعوا، مثل الصواريخ العابرة للقارات، باتجاه (أبي نبّيرة)، وشرعوا يخبطونه بأيديهم وأرجلهم والعصي والكرابيج والكابلات النحاسية.. وحينما أفرغوا جام غيظهم وحقدهم فيه، التفتوا إلينا، وحذرونا من الاقتراب منه أو محاولة إسعافه، تحت طائلة (التعبير والتمثيل والتجوير).. وهذه عبارة معروفة في العصفورية وتعني: جعل من يقترب منه (عبرة)، بعد جعله (مثيلاً) له، وإلقائه (بجواره)!
بعد إسعاف الزميل (أبي نبّيرة)، وكان الاعتصام السلمي قد شارف على الانتهاء، طُرحت القضية التي نشب الخلافُ بسببها على بساط البحث.
قال نائب المدير العام، راسماً على وجهه ابتسامة أبوية حانية:
- صدقني يا ابني يا (أبا نبّيرة)، وأنتم يا شباب، صدقوني أن (الديمقراطية) مطبقة في حاكميتنا العربية هذه منذ زمن بعيد.. فنحن لدينا، كما تعلمون، نقابات للعمال والأطباء والمهندسين والفلاحين والمهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين، وجمعيات للنسوان، والمعاقين، والصم والبكم، والمعادين للاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وتجمعات لمناهضي العولمة، ومحاربي الماسونية والمجتمع المدني وجماعة كوبنهاجن.. ولدينا أحزاب مناضلة، كلها، من دون استثناء، تؤمن بالحرية والديمقراطية والتعددية، وتعادي الاستعمار ومخططاته الرامية إلى اقتلاع شعبنا المعطاء من جذوره، وهي أحزاب مستقرة، بدليل أن قياداتها ما تزال على رأس عملها منذ عشرات السنين، ولدينا برلمان منتخب، الله وكيلكم منتخب، وأنا شخصياً كنت في لجنة فرز الأصوات، وأعرف ذلك حق المعرفة.
وحينما شعر نائب المدير العام أن كلامه قد سَحَرَنا نحن المجانين، وأبا نبّيرة من جملتنا، قال:
- تفضل يا ابني، يا (أبا نبّيرة)،.. إذا كان لديك أي سؤال، أو استيضاح، فأنا جاهز للإجابة والتوضيح.
ههنا كان فدائيو الحاكم المفدى المغاوير واقفين حول أبي نبّيرة على هيئة دائرة واسعة، أخذت تضيق تدريجياً حتى أصبح وجهُه وجسدُه في مرمى أيديهم وأرجلهم وسياطهم، وقد بدأ أبو نبّيرة الكلام، ولكن معظم الجمل التي بدأها لم نستطع أن نفهم نهاياتها، لأن الفدائيين كانوا يلطمونه وهو في منتصف الجملة فيصيح: آخ، وتذهب بعض الكلمات، وبالأخص في أواخر الجمل في خبر (كان).
قال إنه مصر على غياب الديـمـ....، بدليل:
- أن وجود النقابات في البلد ليس دليل ديمقـ.. (لطمة).. لأنها غير مستقـ .. (لطمة)!
وأن الانتخابات التي (لطمة).. غير نزيـ .. (لطمة).
وأن مناهضة الاستعمار والمخططات الإمبريالية لا يكون بالكَلا... (لطمة).. والشعارا.. (لطمة)!
لم يستطع أبو نبيرة أن يكمل تعداد البنود الخاصة به كلها، ذلك أننا نحن المجانين اغتظنا منه أيضاً، وطلبنا من الفدائيين أن يقفوا جانباً، وشرعنا نعجقه بأرجلنا، ثم تركناه مسجى على الأرض.. وانطلقنا في مسيرة عظيمة طفنا بها أرجاء العصفورية ونحن نهتف بحياة الديمقراطية الموجودة في حاكميتنا، فنحن، في الحقيقة، لسنا بحاجة إلى استيراد ديمقراطيات أخرى لا تتناسب مع مجتمعاتنا العربية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية (عصفورية) 2010