إيران وإسرائيل: مسرح أم مسرحيّة؟

28 يونيو 2024
+ الخط -

واحدة من أهم وأكبر النظريات التي تفتّق عنها الذهن العربي (والعراقي خصوصاً) هي "نظرية المسرحية". إنّها أسهل النظريّات وأكثرها راحةً للدماغ بالنسبة للكُسالى الذين أعفوا عقولهم من مشقّة التفكير والتأمّل في القضايا المعقّدة والمُتداخلة. 

وعلى طريقة الطبيب الذي كلّما واجهه مرض لم يألفه من قبل، قال عنه حسّاسية، يحلّل الكثير من العراقيين والعرب أحداثاً سياسية معقّدة ومتشابكة بنظرية الحسّاسية/المسرحية هذه. 

ففي الماضي القريب، هيّأَت الولايات المتحدة الأميركية جيشها وأعدّت عدّتها وعديدها وسلاحها وأساطيلها لإسقاطِ نظام صدام حسين في 2003، لكن الكثير من العراقيين والعرب قالوا وقتها إنّها "مسرحية"، وإنّ صدام ولدهم المحبوب، ولن يُسقطوه. ثم سقط النظام وهرب صدام حسين، فقالوا "مسرحية"، وسيعيدونه إلى السلطة بعد أشهر أو سنوات. ثم اعتقلوا صدام في حفرةٍ، فقالوا "مسرحية"، ولن يحاكمه أحد. سيهرّبونه إلى مكانٍ آخر! ثم أُعدِم صدام، فردّدوا "مسرحية"، هذا ليس صدام، بل شبيهه، صدام الآن في جزيرة إسبانية يتمتّع بحماية الأميركيين أنفسهم! 

تعود "نظرية المسرحية" إلى الأضواء مجدّداً بعد هجوم المسيّرات الإيراني على إسرائيل، وقصف إسرائيل لبعضِ المواقع الإيرانية في أصفهان . ليس طرفا "المسرحية" هذه المرّة صدام وأميركا، بل إيران وإسرائيل. وما أسهلها من نظريّةٍ وتحليل! 

برأيي، لا مسرحية في المنازلةِ الإيرانية الإسرائيلية هذه، بل مسرح. وهناك فرقٌ بين المسرحية والمسرح. فالمسرحية تحدّد الأحداث والشخوص والسيناريوهات والأدوار المتفق عليها، فيما المسرح عكس ذلك، تحدّده الأحداث والظروف من دون تخطيط مُسبق في الكثير من الأحايين. الأولى مُنتَج مقصود، فيما الثانية ناتج عَرَضَي لجملةٍ من المتغيّرات غير المحسوبة. 

تعي إيران جيّداً فارق القوّة بينها وبين إسرائيل التي يدعمها كلّ الغرب أو نصفه

لم تفكّر إيران أنّ إسرائيل ستقصف قنصليتها في سورية وتقتل عدداً من الضبّاط والدبلوماسيين المهمين، باعتبار أنّ قواعد الاشتباك وأخلاقياتِ المواجهات العسكرية تمنع استهداف القنصليات والسفارات والمستشفيات ومراكز الإغاثة وبعثات الأمم المتحدة ومقرّات الهلال أو الصليب الأحمر، فوُضِعت إيران في "مسرح" جديد لم تكن تريده. ما اضطرها لأن تلعب دوراً أُجبِرت عليه، وهو الردّ بالمسيّرات على إسرائيل. 

في المقابل، لم تتوقّع إسرائيل هجوماً إيرانياً بهذا العدد من المسيّرات والصواريخ. حتى لو لم يحقّق هذا الهجوم الإيراني أضراراً مادية وبشرية كبيرة في إسرائيل، فهو يبقى هجوماً لم تألفه إسرائيل منذ هجوم الصواريخ العراقية لحكومة صدام عام 1991. 

ردّت إسرائيل على الهجومِ الإيراني بهجوم "رمزي" هو الآخر من خلال قصف بعض المواقع العسكرية الإيرانية في محافظة أصفهان من دون وقوع خسائر ماديّة وبشرية تُذكر. 

وهنا، تعي إيران فارق القوّة بينها وبين إسرائيل التي يدعمها كلّ الغرب أو نصفه، فلم تكن تريد غير هجومٍ محدود ومحسوب بعنايةٍ ودقةٍ، أي لا يُغضب إسرائيل أكثر، فأرسلت مسيّراتٍ وصواريخَ هدفها الإثارة والتشويق الإعلامي، لا التأثير الواقعي والمادي، كمحاولةٍ لردّ الاعتبار وحفظ ماء الوجه فحسب. 

إسرائيل هي الأخرى في ردّها، لم تكُن تريد سوى هذا التأثير الإعلامي فحسب، لأنّها تتفق مع إيران ضمناً، بأنّ حرباً عسكرية مباشرة لم يأتِ أوانها بعد، وستتضرّر إسرائيل منها الآن في ظلّ وجود أذرع ومليشيات إيرانية منتشرة في العراق وسورية ولبنان واليمن، يُمكنها إيذاء المصالح الإسرائيلية. 

لا يعني هذا أنّه اتفاق مسبق بين الإيرانيين والإسرائيليين في إطار "نظرية المسرحية" المضحكة هذه، بل خضوع لشروط "المسرح" التي وضعتها الأحداث وعلاقات القوّة رغماً عن الإثنين. 

نحن لسنا في "مسرحية" مُعدَّة سلفاً، بل في "مسرح أحداث"، سينتصرُ فيه التنظيم والسلاح والقوة والتكنولوجيا والصبر الاستراتيجي في المستقبل القريب أو البعيد.

عباس ليث
عباس ليث
مدوّن عراقي، درس في كلية الفنون الجميلة ويعيش في بغداد، ويعمل في الكتابة والصحافة. يؤمن بمقولة "أن تشعل شمعةً صغيرة خير لك من أن تنفق عمرك تلعن الظلام"