إنكار...
لا أعرف كم يلزمني حتى أصدّق أنّ علاقتي بأمّي انحصرت في العناية بقبرها فقط بعيدًا عن عملها الصالح الذي أجتهد كي لا ينقطع، ذلك شيء يعرفه الله وحده، وهذا حسبي. لكنني أتحدّث عن الرعاية حصرًا، فلم يعد بالإمكان أن أسألها عن وجبة تشتهيها لأحضرها لها فور عودتي من العمل، أو فاكهة عنّت على بالها لأضعها في يمينها بعد أن أغسلها بماء قلبي، ولم يعد بالإمكان أن أجلب لها الماء وأساعدها على الوضوء، ثم أمسح بوجهي الماء الفائض عن قدميها، ولم يعد بالإمكان أن أجهز لها وجبة الإفطار وكأس الشاي الذي سترميه في وجهي لو لم يكن "عاقد"، أي "تقيل حبر" على رأي المصريين...
رحلت أمي ولم أجرؤ على الاعتراف لها بأنني لم أحبّ الشاي يوماً، لكنني كنت أشربه من أجلها. الأمر الآن لا يتجاوز العناية بالورود والنباتات المزروعة فوق وحول قبرها، وجلي الشاهد والرخام كأن ضيفًا مهمًا سيجيء بعد قليل. أفعل ذلك مردّدًا: ينبغي أن يظلّ منزل أمي الجديد نظيفًا على الدوام.
كنت أشاهد الزير سالم ينظّف قبر أخيه كليب في المسلسل الشهير فلا يحرّك بي المشهد ساكنًا ولا يُسكّن مُتحرّكًا، لكنني بعد رحيل أمّي صرت أستوعب هذا التصرّف جيدًا: لعله جُلّ ما يستطيعه العاجز، وأبلغ ما يبذله المشتاق، أو لعلها لوثة الفراق!
بالمناسبة، ترقد على يسار أمي تمامًا شقيقتها الوحيدة التي تُوفيت قبلها بسبعة شهور فقط، ويرقد على يمينها تمامًا رجلٌ يدعى (عبد المجيد). هل حدث ذلك صدفة؟ أم أنه الترتيب الإلهي كي يؤنس وحدتها من كانت رفيقتها في كلّ محطات الحياة، ومن يحمل اسم ولدها الذي كان وما زال يراها الحياة؟
أقول لنفسي: ينبغي أن يظلّ منزل أمي الجديد، أي قبرها، نظيفاً على الدوام!
أجدني (لتفسير ما جرى) أكثر ميلًا إلى تلك العبارة التي أوردها سعود السنعوسي في رواية "ساق البامبو": "كلّ شيءٍ يحدث بسببٍ ولسبب، ولا مكان للصدفة في أقدارنا!".
على بعد أمتار من قبرها، أشاهد فتاة تجلس بصورة دائمة عند قبر أبيها، تفعل هي الأخرى ما أفعله تمامًا من تنظيف القبر والعناية بزرعه، وتقتصر العلاقة بيننا على أن يُلوّح كلّ منّا للآخر دون كلام، مرّة واحدة فقط تحدّثنا فعرفتُ أنها تزور والدها، وعرفت أنّني أزور أمي. أحياناً تسبقني إلى المقبرة وتغادر قبل مجيئي، أعرف ذلك حين أرى النباتات في محيط قبر أمي وأبيها قد سُقيت بالماء، وأحيانا أسبقها وأغادر قبل مجيئها، وأظنّها تعرف ذلك من خلال الطريقة ذاتها! غير أنّ أكثر ما يستوقفني في تلك الفتاة أنها تجلس باستمرار عند شاهد قبر أبيها، ثم تجمع يديها حول فمها وتهمس له كما يهمس الحي في أذن الحي! يستفزني ذلك وأشفق عليها، فأفعل ما تفعله تمامًا لأقول لأمي: هل ترين المسكينة؟ تناجيه كأنه يسمعها!
لا أعرف كم يلزمني حتى أصدق أنها لا تسمعني هي الأخرى!