أين ذهبت مصاحف اللصوص؟
قل لي بالله عليك، كم مرة في حياتك التي لا تسُرّ الصديق ولا تغيظ العِدا، شاهدت هذا المشهد العبثي المرير، أعني المشهد الذي يذهب فيه الحاكم العربي ليفتتح مصنعاً، أو يحضر مناسبة وطنية أو دينية، أو يلتقي بثُلّة من أفراد شعبه المُدلّه في حبه، وبعد أن يلقي عليهم الخطاب الذي كتبه شخص آخر وقام شخص ثالث بتدريبه على إلقائه بالتشكيل، وبعد أن تلتهب أكف المواطنين المدلّهين من التصفيق، وحناجرهم من الهتاف بفدائه بالروح والدم والعضم، وبعد أن يقوم بتوزيع شهادات التقدير لقدامى المنتسبين الى الموقع الذي يزوره لأنهم استطاعوا أن يتحملوا الحياة في عهده كل هذا الوقت، يقف مسئول الموقع المزور (من الزيارة والتزوير معاً) بكل خشوع وينظر إلى المسئول نظرة مديحة يسري لعبد الحليم حافظ في فيلم الخطايا، بينما يعلن المذيع بكل فخر أن الوقت قد حان لكي يتلقى الحاكم هدية أبنائه العاملين في الموقع.
يقف الحاكم أو المسئول الرفيع متصنعاً أنه "مُفوجأ" بموضوع الهدية هذا وأنه "لم يعمل حسابه على هدايا"، لكن نظرة الإصرار في عين المسئول الأوطى منه تذكره بأن "النبي قَبِل الهدية"، فيبتسم الحاكم ابتسامة كلها رضا، وتأتي الهدية يحملها اثنان من الموظفين الذين يتم اختيارهم بعناية حيث تم التأكد من خلوهم من الأمراض المعدية والمشاعر وعدم قدرتهم على العض، يسيران بثقة كأنهما جمل المحمل يحمل كسوة الكعبة، يصلان إلى الحاكم وهما يحاولان منع نفسيهما من الإرتماء في حضنه لكي لا تقع الهدية منهما، ويهرول رئيسهما ليفتح الهدية التي هي عبارة عن صندوق كبير مغلف بالقطيفة الفاخرة، وحين يفتح الصندوق نرى بداخله مصحفاً شريفا بغلاف فاخر موشى بماء الذهب، وينظر إلى الحاكم بفخر من جاب التائهة، فيرد له الحاكم النظرة بعشر أمثالها، ثم يقترب من المصحف ويميل عليه ويقبله.
عندها يسود المكان جو روحاني يشعرك أنك في عصر الخلافة الراشدة، وربما لو تركت لخيالك العنان لاعتقدت أن المسئول الذي يقف أمامك هو الخليفة هارون الرشيد أو السلطان نجم الدين أيوب، وأن ما كان يفتتحه هو (قبة الصخرة) أو (دار الحكمة)، وأن رسولاً بالباب سيدخل ليعلن فتح أنطاكية أو تحرير عموريّة، وأن السلطان سيأمر بمنح الذي أهداه المصحف صُرّة من الدنانير تحية لتقواه، ولتخيلت أن الحاكم من فرط تأثره سيقوم بفتح المصحف وسيأمر الحاضرين وعلى رأسهم كبار المسئولين بإخراج مصاحف صغيرة لتتحول الجلسة إلى مقرأة يقرأ فيها الجميع كتاب الله ويتدبرون معانيه.
ستفيق من كل خيالاتك هذه عندما يلتفت المسئول خلفه لينظر إلى أحد مساعديه نظرة ذات مغزى ـ خذ بالك أن المشهد كله صامت وهذه أرقى أشكال التعبير البصري ـ فيقترب المساعد بثبات وجلال، وأحياناً يكون جلال في أجازة فيقترب بثبات فقط، ويعيد المصحف الفاخر إلى صندوقه ويغلقه عليه ثم يحمل الصندوق بمفرده ويبتعد دون أن يدير ظهره للحاكم وسط تصفيق جنوني من الجميع ونظرات امتنان عميق من مسئول الموقع لأن هديته نالت القبول وأن بركتها ستحل عليه لكي ينتقل من هذا الموقع المدعوق الذي تدفن فيه مهاراته إلى موقع يستطيع السرقة فيه بشكل أفضل، ويفهم الحاكم نظراته الشغوفة فيهز له رأسه مطمئناً ومطالباً بالصبر والتريث لأن كل شيء قسمة ونصيب، خصوصاً سرقة المال العام .
يعني لو فرضنا أن الحاكم ظل في موقعه خمسة عشر أو عشرين سنة، قول أربعة عشرين أو ثلاثين، ليس المهم عدد السنوات الآن، المهم هو أن نعرف مصير تلك المصاحف الفاخرة التي تساوي الشيء الفلاني التي ظل الحاكم العربي يتلقاها خلال "جثومه" على منصبه
الآن وقد وصفت لك هذا المشهد بدقة أحسبها متناهية لدي سؤال وحيد يشغلني: " يا جدعان هي المصاحف دي كلها بتروح فين"، أليس هذا بالذمة سؤالا محيرا؟ ألا يشغل بالك والنبي؟ يعني لو فرضنا أن الحاكم ظل في موقعه خمسة عشر أو عشرين سنة، قول أربعة عشرين أو ثلاثين، ليس المهم عدد السنوات الآن، المهم هو أن نعرف مصير تلك المصاحف الفاخرة التي تساوي الشيء الفلاني التي ظل الحاكم العربي يتلقاها خلال "جثومه" على منصبه، فإذا كان يذهب إلى مناسبتين من هذا النوع كل شهر على الأقل، فمعنى ذلك أنه يتلقى خلال العام ما بين عشرين إلى أربع وعشرين مصحفاً، يعني إذا كان قد بقي في منصبه ربع قرن سيكون لديه الآن خمسمائة مصحف على الأقل، يعني أكثر مما بداخل المقر الرئيسي للجمعية الشرعية من مصاحف.
في بلاد متدينة بطبعها مثل بلادنا، كان ينبغي أن نفتخر ونعتز بأن لدى حكامنا المتعاقبين أعدادا مهولة من المصاحف المزينة بماء الذهب، لكننا كنا سنفتخر أكثر، لو كان كل حاكم قد فكر في قراءة المصاحف التي يتلقاها كهدايا، وتأمل آياتها الكريمة، بدلاً من تقبيلها وتمريرها لمساعديه ليحملوها إلى حيث سيتم تخزينها مع سابقيها، هذا إذا لم يكن سيقوم بمنحها كهدية لآخرين ليضعوها في بيوتهم أو في الزوايا التي تقع تحت بيوتهم، خصوصاً أن المصحف الذي يتم اختياره ليكون هدية للحاكم، يكون عادة من الحجم العملاق الذي لا يسهل فتحه وقراءته، بل يفضل وضعه على سبيل البركة والزينة، خصوصاً أنه يتم وضعه داخل صندوق ثقيل محكم الإغلاق وموشى بالقطيفة الفاخرة، وهو ما يجعل تلك المصاحف عرضة للسرقة، للاستفادة من صناديقها وكسوتها ونقوشها الذهبية.
لو أنصف من قرر أن يهدي مصحفاً إلى حاكم أو مسئول رفيع، وأراد به وبنا خيراً ونفعاً، لقام ربما باختيار مصحف صغير الحجم، ولفتحه على آية محددة حين يسلمه للحاكم وهو يهمس في أذنه: "يا ريت سعادتك تقرا الآية دي يمكن ربنا يهديك وتوقظ قراءتها ضميرك وتحيل الجبل الجاثم فوق مشاعرك خاشعاً متصدعاً من خشية الله"، ألن يكون أوفق لو قام من يهدي المصحف إلى الحاكم بتذكيره بآية: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها"، أو "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" دون التركيز على جزئية إيتاء ذوي القربى، لأنها الجزئية الوحيدة في القرآن التي يعمل بها حكامنا دون الحاجة لتذكير، أو تلك الآية الجامعة المانعة: "ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب".
ألا يمكن أن تتحقق المعجزة فتؤثر في نفوس الحكام تلك الآيات، فتصبح حياتنا أفضل حينها، ونكون مسلمين حقاً وصدقاً، لا مسلمين فقط بالمظاهر الكاذبة والطقوس الجوفاء؟ ألن يكون من الأفضل أن نفرج عن المصاحف الرئاسية من صناديقها المغلفة بالقطيفة الفاخرة والرسوم المذهبة، لعلهم ينتفعون بما فيها حقاً وصدقاً؟ وإذا لم يحدث ذلك فلماذا لا نعفي المصاحف من أن تكون جزءاً من ذلك الديكور النفاقي المبتذل الذي يجعل من المصاحف تغطية على عمليات السرقة التي تحدث في مواقع الإنتاج المختلفة، ونهدي للحاكم بدلاً من المصحف علبة شوكولاتة "يلغّ" فيها بجملة ما يقوم بـ "لغّه" من خيرات الوطن، وإذا طلب هو أن نهدي له مصحفاً، نشترط عليه حينها ألا يعطيه لمساعده أو مدير التشريفات التابع له، وأن يتعهد بالتأمل فيه والاسترشاد به لعله يكون سبباً في هداية طريقه وإنارة قلبه.
المشكلة أنه على حد التعبير القرآني البديع: "الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم"، لكن ماذا عن جلود الذين لايخشون ربهم.
...
نشرت هذه السطور لأول مرة عام 2005 وهي فصل من كتاب (ماذا أحدثوا بعدك) الذي يصدر قريباً بإذن الله.