أن تكون سعيدًا بمزاجٍ سيئ
ما هو المزاج الحقيقي للشاعر؟
إنّه مزاج سيئ. لماذا؟ لا أدري. ربّما أيضًا لا أحد يدري. هل هذا خاص بالشاعر العربي وحده؟ هل يُستثنى من ذلك الشاعر الغربي مثلًا؟ لا أعتقد ذلك.
أمزجة سيئة للشعراء بعدلٍ كاملٍ، وقسمةٍ متساويةٍ عبر كلّ الأمكنة والأزمنة. عليك أن تفرح في النهاية لأنّ السماء اختارتك أنت أيضًا كي تكون شاعرًا، والدليل هو أنّها منحتك نصيبك كاملًا من ذلك المزاج السيئ. عليك أن تفرح دائمًا وتسعد بهذه الأُعطية الثمينة، أن تكون سعيدًا بمزاجٍ سيئ. السحب تمرّ، أمّا الغمام فمقيم مدّةً أطول، وثابت في السماء كما لو أنّه بذلك يَشغل الكآبة العملاقة التي تنهمك الملائكة بجهدٍ كبير في إتقانها، وثمّة شعاع منفلت كلّ مرّة من الغيوم عليك التمسّك به بنظراتك.
الناس يموتون تباعًا، الأحوال تتغيّر، الجسد يهرم، الذاكرة تتعب، ورغم ذلك تنبثق شقائق النعمان كلّ ربيع، مضيئات جنبات الحقول من دون أن يزرعها هناك أيّ فلاح.
قد يهبك النهار صرخة طائر. قد يهبك ذرقه، أو ريشه بعد أن تعشّى به الصيادون الليلةَ الفارطة، أو بعد أن هاجر. الأشعة تضيء كلّ شيء، وعليك أنت أن ترى جيدًا، وأن تجد الشعر في ما تخلفه العاصفة، في ما تخلفه الحرب، في ما تخلفه معركةَ الحياة الصامتة المسالمة الطاحنة أمام عينيك. وعليك أن تشعر أنّك تنتمي، من دون شك، إلى أبعد مما تراه عيناك، وإلى أبعد مما تعيشه في حياتك هذه. إنّ أجدادك وأخوالك وأعمامك شعراء من كلّ مكانٍ وزمانٍ، ولا بدّ أنّ لك قرابةً ما لهوميروس، تحسّها في صوت الريح عند المقابر العتيقة.
حتى حين تكون أعمى سترى ما يتجلّى داخلك على ضوءِ شعاعٍ منفلت من غيوم الباطن
الشعاع يضيء كلّ شيء، المرئي وغير المرئي، حتى حين تكون أعمى سترى ما يتجلّى داخلك على ضوءِ شعاعٍ منفلتٍ من غيوم الباطن. الحشائش الخضراء، اللفحة الباردة للهواء على وجهك عند غابةٍ أو شاطئٍ، الغياب الطويل المضني للماضي في رائحة التراب، وظهرك دائمًا إلى المدن والعمران والرفقة في كاملِ إعيائك.
إنّك تنتمي إلى أبعد مما تراه، ومما تعيشه، وبالحدس تصنع هويتك التي لا يمكنك التعبير عنها بكلمات، وليس إلا هنا يكون الشعر حليفك ضد محو الطبيعة.
ماذا سيعني كلْ ذلك على إيقاعِ موسيقى كمنجاتٍ بلا نهاية، فارسية أو أرمينية، أو اسكتلندية ريفية، وأنت لا تعرف بالضبط أين كانت روحك قبل أن تصل كالريشة مع الهواء والتيار والموسيقى إلى هنا.
تقف في الريح الشتوية بثيابٍ صيفيةٍ، بسيكارةٍ منطفئةٍ في فمك منذ أجيال، بشعرٍ وحشي طويل، قبالة الطبيعة الأم، متأملًا حياتك تحت الغيوم مضاءةً بشعاعِ حياتك الشاسعة على طرف المدينة، على حدودها القصوى، ظهرك إلى أضوائها، وعيونك إلى الغابات والحجر الأوّل والخلجان والشواطئ والصحارى والجبال. ابنًا بكرًا لكلّ هذا العالم، منفلتًا كشعاعِ الشتاء من قبضة المدن، ابنًا بارًّا للغة التي تأتي مع الماء والريح، ويكون طعمها مالحًا ومسمومًا. سعيدًا بهذه الحرية الموحشة للعظاءات والسحالي والطيور المنقرضة والشعراء. بمزاجٍ سيئ وكئيبٍ وحاقدٍ تلتفت لحظةً واحدة فقط إلى المدن والخرسانة والقصدير لتكتب قصيدة، قبل أن تمضي صامتًا وحيدًا متوغّلًا بلذّةٍ في ذاتك، كالطريدة التي نجت بأعجوبة من مطاردةِ كلابٍ وفية.
بروكسل، 18 مارس/آذار 2024، الساعة الثامنة مساءً. الشاعر وسط مظاهرة حاشدة ضد الشرطة. شعارات صادحة بغياب العدالة، بفقدان المساواة، بانعدام الأمن. الشاعر يصرخ صامتًا، يصرخ بنظراته، محدّقًا في غيوم الليل المتلبدة، أبعد ما يكون من الظاهر، منتظرًا شعاعًا...