أن تقرأ لسالينجر خير من أن تراه (1/2)

23 مارس 2021
+ الخط -

برغم أنه لم يكتب سوى رواية وحيدة وبضع قصص، إلا أن الكاتب الأميركي ج. د. سالينجر ظل لأكثر من سبعين عاماً يملأ الدنيا ويشغل الناس، ليس فقط بمشاعر الإعجاب بروايته الفذة (الحارس في حقل الشوفان) التي ترجمها الكاتب الأردني غالب هلسا إلى العربية، وبقصصه القصيرة القليلة التي ترجم بعضها إلى العربية الشاعر اللبناني بسام حجار في مجموعة (اليوم المرتجى لسمك الموز)، ولكن أيضاً بمشاعر الدهشة من قراره المفاجئ بأن يعتزل الحياة والمجتمع والناس وهو في قمة مجده، ليظل لأكثر من خمسين عاماً متوقفاً عن النشر والظهور في أي محفل أدبي أو اجتماعي، ومكتفياً بالتواصل مع ابنه وابنته وعدد محدود من المعارف، لدرجة أنه تحول إلى مطمع لمصوري "الباباراتزي" الذين ظلوا حتى آخر يوم في حياته متلهفين على التقاط أي صورة له، حتى لو كانت وهو خارج من السوبر ماركت وحيداً.

طوال هذه السنين، ظل سالينجر حريصاً على أن يحمي خصوصيته بشراسة، دفعته إلى الدخول في معارك قضائية مع كل من يحاول أن يقترب من حياته الخاصة، ومن أدبه أيضاً، لدرجة أنه أجبر كاتب سيرته الذاتية إيان هاميلتون على إعادة كتاب كتبه عنه لأنه تطرق إلى علاقاته العاطفية التي لم يكن راغباً في مناقشتها مع أحد، كما أنه أيضاً تسبب في إصدار قرار بمنع نشر وتوزيع رواية لكاتب سويسري حاول أن يكتب جزءاً ثانياً لروايته الشهيرة (الحارس في حقل الشوفان).

عندما توفي جيروم ديفيد سالينجر في عام 2010 ،كان بالتأكيد مرتاحاً جداً، لأنه نجح في أن يحمي خصوصيته حتى آخر لحظة من عمره، فلم يصل للناس عنه إلا ما أراد أن يصل إليهم فقط من خلال أعماله القليلة التي كفل نجاحها الساحق له أن يعيش عيشة رغدة، على عكس أدباء عالمنا التعيس الذين لا ينشغل الواحد منهم بحماية خصوصيته، بقدر ما ينشغل بحماية أهل بيته من الفقر وسؤال الناس، لكن الدنيا التي ساعدت سالينجر في حياته، لم تساعده بعد وفاته، حيث فوجئ محبوه ونقاده بانتشار صورة مختلفة تماماً عن سالينجر الزاهد المتعفف عن مباهج الحياة ومفاتنها، صحيح أن صورته المختلفة هذه كان يُشار إليها على استحياء من قبل، وكان سالينجر ومحبوه يهاجمون من يشير إليها، لكن صورة سالينجر الجديدة هذه المرة لم تعد فقط مجالاً لحديث الأوساط الأدبية الضيقة التي فاجأها اكتشاف أن سالينجر لم يعتزل الكتابة كما كان عشاقه يظنون، حيث اتضح أنه كان يكتب كل يوم تقريباً، وأنه لم يعتزل سوى النشر فقط، فقد ظل حريصاً طوال عقود على ألا يخرج أي شيء يكتبه للنور أبداً، وأياً كانت المغريات.

في رسالة أخرى يطلب منها أن ترسل له صورة لها، وعندما تأخرت في الرد أرسل يعتذر قائلا لها أنه كتب طلبه ذلك وهو في مزاج سيئ

ما خرج إلى النور بعد وفاة سالينجر لم يكن فقط ثلاثة من قصصه اللواتي سُرِّبَت على أحد مواقع الإنترنت، بل كان أسرار حياته الخاصة التي خرجت إلى النور من خلال كتاب وفيلم يحكي فيهما الكاتب ديفيد شيلدز والمخرج شين ساليرنو أدق تفاصيل حياة سالينجر الخاصة، وعلى رأسها ولعه الشديد بالفتيات المراهقات. وبرغم أن الكتاب والفيلم أحدثا دوياً هائلاً فور صدورهما، إلا أنهما كشفا أن النصيحة التي قال فيها بطل رواية (الحارس في حقل الشوفان): "إياك أن تخبر أحداً أي شيء، إذا فعلت ستبدأ بفقدان الآخرين" والتي كانت تعبّر عن هوس سالينجر بإخفاء هوسه عن الناس، لم تكن نصيحة حقيقية، لأن صورة سالينجر الجديدة لم تفقده المعجبين بأدبه، بل زادت من حالة الهوس به وبأدبه.

قبل عدة سنوات، استمتعت في متحف ومكتبة مورجان بوسط نيويورك بحضور معرض صغير يضع بين أيدي جمهور سالينجر لأول مرة الرسائل التي أرسلها إلى الكاتبة الكندية الشابة مارجوري شيرد ما بين عامي 1941 و1943، وكان وقتها لا يزال في بداياته المبكرة ككاتب، المعرض الذي حمل عنوان (لا تخسر قلباً)، وهي عبارة مقتطعة من إحدى رسائله لشيرد، لم يقدم فقط فرصة للتعرف إلى الوجه العاطفي المبكر لسالينجر، بل كشف أنه كان يتخذ من رسائله فرصة لاختبار أفكار قصصه ومناقشتها مع من يراسلهن، حيث يمكن التعرف في إحدى الرسائل إلى الملامح الأولى لشخصية هولدن كاولفيلد بطل روايته (الحارس في حقل الشوفان) الذي يعتبر واحداً من أشهر الشخصيات الأدبية في تاريخ الرواية العالمية.

كان كثير من النقاد المحافظين قد اتهم سالينجر وشخصيته الأشهر بأنها ساهمت في إفساد سلوك ووجدان الأجيال الشابة، وهي مسألة لم تؤثر إطلاقاً بشعبية الرواية وسط الشباب، بل زادت تلك الشعبية، حتى عندما كُشف عن أن منفذ عملية اغتيال المغني الأسطوري جون لينون ومنفذ محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان كانا مهووسين بالرواية وبطلها، واعتبر كارهو رواية سالينجر ذلك تأكيداً لصحة نقدهم لها، فإن ذلك خدم الرواية أكثر مما أضرّها، وساهم في إدخال المزيد من القراء إلى دائرة المهووسين ببطلها الذي نجح سالينجر في جعله معبّراً عن المشاعر المضطرمة للمراهقين في المجتمع الغربي المعقد والقاسي.

ستتذكر عبارة نجيب محفوظ (ولكن الزمان عدو لدود للورود)، عندما تشاهد صورة مارجوري شيرد التي كانت وقت إقامة المعرض في الخامسة والتسعين من عمرها وتجلس على كرسي متحرك، لكنها ما زالت تستمتع بحكاية قصتها مع سالينجر لزملائها في دار المسنين الذي تقيم فيه في تورنتو، حيث تروي لهم كيف أعجبت بالأعمال القصصية الأولى التي كان ينشرها في مجلة (إسكواير)، فقررت أن تكتب له رسالة دون أن تتوقع أنه سيرد على رسالتها برسالة مدهشة، لتكتب له رسالتها التالية كأنهما صديقان قديمان، واصفة أسلوبه بأنه كان يكتب باختيال شاب صغير، وأنه كان يشبه تماماً كاولفيلد بطله الذي عشقه ملايين القراء فيما بعد.

في رسالة أخرى يطلب منها أن ترسل إليه صورة لها، وعندما تأخرت في الرد أرسل يعتذر قائلاً لها إنه كتب طلبه ذلك وهو في مزاج سيئ، لكنها أرسلت إليه صورتها التي فتنته، فأرسل يتغزل فيها، وكان من سوء حظه أن غزله لم يصادف هوى في نفسها، لأنها لم تجد فيه الرجل الذي تحلم به، ولذلك لم تستجب لطلبه بأن يلتقيا، وقررت أن تتزوج رجلاً عاشت معه أكثر من ستين عاماً، وانتقلت بعد وفاته إلى دار المسنين لأنها لم تنجب منه، ليكتشف أفراد رسائلها ورسائل سالينجر بالصدفة داخل علبة أحذية حيث احتفظت بها في السر حتى بعد وفاة سالينجر عام 2010 عن 91 عاماً، وربما لم يكن ليقرأها أحد إلى الأبد لولا أن أبناء أخيها قرروا بيع الرسائل لمكتبة مورجان للإنفاق على التكاليف المتزايدة لدار المسنين التي تقيم فيها.

في عدد من الرسائل يقترح سالينجر على مارجوري عدداً من الكتب لتقرأها، على رأسها أعمال الكاتب الأميركي الشهير إف سكوت فيتزجيرالد، وبرغم أنه شجعها كثيراً على الكتابة، إلا أنها عندما كتبت رواية تاريخية لم تجد طريقها إلى النشر، لكي تختار مارجوري العمل كاتبةً في مجال الإعلانات لثلاثين عاماً، ولا يزال البعض ينتظر أن تظهر يوماً ما رسائلها إلى سالينجر، عندما يقرر ورثته نشرها، لكي يحكموا على مستوى كتابتها.

...

نكمل غداً بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.