04 أكتوبر 2023
أموات... واقفاً!
حمل بيده منديلاً ورقياً أبيض وخرج من مكتبه. كان الأبيض وسط الخراب والغبار نشازاً مستفزاً، وأمامه في ساحة صغيرة حدّدتها بضع حجارة وإطارات تالفة؛ وقف ثلاثون مجنّداً لتأدية تحية العلم الصباحية.
سارية صدئة، وعلم ممزق، وجهاز تسجيل لم يبق منه إلا بعض قطع كانت كافية لتشغيل كاسيت مكسور ردّد مع أفواه العساكر التي شقّقها الغبار: حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذلّ نفوس الكرام!
لم ينته المشهد السريالي بنهاية النشيد، فالنقيب بشار لديه تتمة أخرى، اليوم سيفتش عن الذقون الطويلة. راح يجول بين العناصر، ومن شك بأن ذقنه طويلة؛ سحج المنديل على خديه، فإذا علق شيء من المنديل بوجهه كانت ذقنه طويلة، وله الويل والثبور.
انتهى التفتيش، وسقط في الاختبار المصيري ثلاثة عناصر، نظر إليهم النقيب وقال: عينوا حالكم يا كلاب! (عيّنوا حالكم)، لم تندثر هذه العبارة بعد. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي كان يكفي أن يدخل السجّان إلى معتقلي سجن تدمر ويقول لبعضهم: "عينوا حالكم"؛ حتى يخرجوا -ولو بعد أيام- لحفلة تعذيب بمجرد سماعهم: وين المعينين؟ وحينها قد لا يكون من (عيّنهم) موجوداً، ولكن الرعب كان موجوداً دائماً.
انصرف المجندون الثلاثة، مع الجميع، وبعد دقائق بدأ اليوم التدريبي لزيادة قدرة المجندين على التصدي للعدو الصهيوني والإمبريالية العالمية، طلب قائد الكتيبة من العناصر حمل ثلاثة براميل من البنزين من مستودع المحروقات إلى سيارته الجيب واز.
ممنوع ذهاب السيارة إلى المستودع، ممنوع دحرجة البراميل، ممنوع استخدام العربة في جر البراميل. عليهم حمل البراميل المترعة بالبنزين بأيديهم والسير بها مسافة 700 متر صعوداً إلى أعلى التل، حيث تنتظر سيارة العقيد، لتنقل البراميل إلى محطة الوقود القريبة، في مشوار شهري ينتهي بدس ثمن البنزين المباع في الثياب الداخلية لأم السوس الرقاصة، مع عبارة "الله محيي الجيش".
مستغرباً هذه التعليمات سأل بشارٌ العقيدَ: سيدي لماذا لا تنقلها بالسيارة؟ أجاب العقيد بعد أن رسم على وجهه ابتسامة الحكمة: والله أنت غشيم يا بشار، وماذا يفعل العساكر بعد ذلك؟ يا بشار ينقصك الكثير لتتعلمه، فالعسكري لا يجب أن يشعر بالراحة، عليك أن تشغله طوال الوقت، لأنه إذا ارتاح سيبدأ بالتفكير، وإذا فكّر تبهدلنا وأكلنا هوا!
في الحقيقة لم تكن هذه النظرية الفذة خاصة بالعقيد، فالبلاد بكاملها تساس وفق هذه النظرية، منذ عقود.
انصرف بشار من مكتب العقيد غاضباً بعد انكشاف ضحالة معرفته بأصول القيادة. وبعد ساعات من العمل المجهد استقرّت البراميل الثلاثة في سيارة العقيد، مع خمسة فراريج وسحارة من البندورة والخيار وكيس من البطاطا ومجند (جحش) بحسب وصف العقيد، يتلوى ألماً بعد أن سقط برميل على أصابعه فهرسها، سيلقيه الأب الحنون في المستوصف العسكري وهو في طريقه إلى البيت.
انتهى اليوم التدريبي مع انطلاق السيارة، خلع العساكر ثيابهم، طبخوا الفراريج الثلاثة التي بقيت لهم بعد أن أخد العقيد حصّته واستأثر بشار بفروج، ثم حلّ الصمت في الكتيبة مع ساعات العصر، ومع ميلان الشمس نحو المغيب، خرج النقيب من الغرفة بقميص داخلي أسود وشورت أحمر حاملاً كرسياً بلاستيكياً أزرق وإبريقاً أسود من الماء الساخن وكأساً من المتة.
جلس فوق التل، وصاح بالعساكر لحضور التفقد المسائي، وخلال دقائق انتهى الاجتماع، بعد التأكد من حضور الجميع، بما فيهم (الجحش) مهروس الأصابع، الذي عاد بلفافة شاش وظرف دواء مضاد للالتهاب طبع عليه بحروف كبيرة: "خاص بالجيش".
طلب بشار من الجميع الانصراف، عدا المعينين! لقّم كأس المتة ملعقة كبيرة من السكر ثم صبّ الماء الساخن، وهو يقول لهم: وأنتم يا خنازير الذرة؟ ماذا سأفعل بكم؟ أنتم خونة ولاك، وما فعلتموه استهتار كبير واستهانة بحرمة العلم والنشيد الوطني والجيش وسيادة الرئيس الدكتور بشار.
كان النقيب ماهراً حقاً في جعل أية مخالفة إساءةً شخصية للدكتور بشار القائد العام للجيش والقوات المسلحة!
نكّس العساكر الثلاثة رؤوسهم في الأرض وقلوبهم تخفق رعباً، فهم يعلمون أن بشاراً ابن حرام في الأحوال العادية، فما بالك وغداء اليوم كان فروجاً! الوجبة التي تتلوها أصناف من العقوبات والتعذيب في جميع تشكيلات الجيش العربي السوري!
شفط بشار من مصاصة المتة وقال: يجب أن تدفنوا أنفسكم خجلاً مما فعلتم. ومع نطقه بهذه العبارة لمعت في رأسه فكرة. نفّذها على الفور.
صرخ بالثلاثة قائلاً: خلال عشر عدّات كل واحد فيكم سيحفر قبراً لنفسه.
سأل أحمد: بماذا نحفر سيدي؟
قال بشار: واحد
فهم الثلاثة أن الحفلة بدأت، فانهالوا على التراب بجنون ينبشونه بأظافرهم محاولين الحفر، ومع بعض التراخي من بشار كانت القبور الثلاثة جاهزة مع كلمة "عشرة".
نظر إلى القبور الثلاثة ليتأكد من عمقها، ثم صرخ طالباً اجتماعاً عاماً. تمدد الثلاثة في القبور استجابة للأوامر، وبدأ البقية بدفن (الكلاب الخونة) خلال ثلاث عدّات. بالحجارة والتراب دفن العساكر زملاءهم، البعض كان حريصاً على ترك أنوفهم ظاهرة حتى يتمكنوا من التنفّس، والبعض الآخر كان حريصاً على وضع صخرة كبيرة على قبر أحمد، لأن (الكر) لم يعرف بماذا سيحفر، بحسب وصف بشار.
نظر النقيب في وجوه العساكر وقال: ألن تقرؤوا الفاتحة على أرواحهم؟ فرفع الجميع أيديهم وبدؤوا بقراءة الفاتحة. ومع كلمة (آمين) قال لهم: يا حمير، وهل تجوز قراءة الفاتحة على الخونة؟ ثم صرخ: أموات واقفاً! وقف اثنان من الأموات، أما الثالث فلم يقف إلا بعد أن أُبعدت الصخرة عن بطنه.
وبعطف الأب الكبير قال لهم: انقلعوا يا بنيّ، تحمموا وارتاحوا. فانصرف الثلاثة، وبقي (الحمير) الذين قرؤوا الفاتحة على أرواح الخونة. وأقسم أنه لن يتوقف عن معاقبتهم حتى ينفد الماء من إبريق المتة. وقبيل منتصف الليل شرب الكأس الأخيرة وأطلق سراحهم، ليستعدوا ليوم تدريبي جديد.
بعد اندلاع الثورة انشق عشرون عسكرياً من كتيبة بشار فرادى وجماعات، وكان بعد كل انشقاق جديد يجمع المتبقين ويصرخ فيهم: ما الذي ينقصكم يا خنازير الذرة؟ إننا نعاملكم أحسن معاملة، أنتم هنا بمثابة أولادنا وإخوتنا الصغار. هنا بيتكم الثاني فما الذي ينقصكم؟ وحتى يومنا هذا لم يجد بشار سبباً يدعو العساكر للانشقاق، رغم تقيّده التام بنظرية القيادة التي لقنه إياها العقيد ذات يوم!