"ألا يوجد أمل؟"
(ألا يوجد أمل؟) هو سؤال إحدى الفاضلات من الحضور في الدورة التاسعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة من 11-13 مارس/ آذار 2023، والذي خصّص مفهوم "الثقافة السياسية" موضوعاً لهذه الدورة. كان السؤال موجهاً للدكتور عبد الفتاح الماضي، والذي قدّم عرضاً لورقة بحثية بعنوان "كيف يشكل الاستبداد الثقافة السياسية للجماهير؟ مقاربة من منظور العلاقات المدنية العسكرية".
تناول ماضي مظاهر النفوذ والتمدّد العسكري (العسكرة) في الفضاءات المختلفة (السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية)، والتي تجعل لهذا الوجود العسكري القدرة على ترسيخ الاستبداد ليتطوّر ويصبح ثقافة سياسية لدى الجماهير، وهو بلا شك أمر بالغ الخطورة على المجتمعات أينما كانت.
الثقافة من ناحية اجتماعية يمكن وصفها بأنها مجموعة القيم والمعتقدات والتصوّرات التي يتشاركها الناس، ومن ناحية التوصيف السياسي، فقد وصف غابريل ألموند وسندي فيربا الثقافة السياسية بأنها تُعالج المشكلة الكلاسيكية لكيفية تأثير الناس على نظامهم السياسي، وباختصار هي مسألة إدراك الناس وقدرتهم على تقييم مدخلات ومخرجات الأنظمة السياسية، ومن ثم يكون لديهم القدرة على التأثير على الأنظمة، استناداً إلى هذا التقييم الواعي، ليكون لدينا ثلاثة مؤشرات لقياس مستوى الثقافة السياسية، وتحديد نوعها (مؤشر الإدراك، التقييم، التأثير).
إذا فرضنا جدلاً أن زيد هو مواطن في دولةٍ ما، فإنّ أحد واجبات زيد تجاه الدولة هي استخراج وامتلاك وثائق ثبوتية (جواز سفر، بطاقة هوية.. الخ) ومن حقوق زيد وواجبات الدولة إنشاء المرافق المخصّصة لهذا الإجراء وتهيئتها. مسألة معرفة زيد بما يجب عليه وما يجب على الدولة هو البُعد الأول، والذي أسميناه الإدراك، مقدرة زيد على تقييم مدى جودة الإجراءات هو البُعد الثاني، والذي أشرنا له بالتقييم، مقدرة زيد على التعبير عن جودة هذه العملية مدحاً، قدحاً، سخطاً، شكوى أو احتجاجاً، دون خوف من ملاحقات أو تنكيل من السلطة، هذا هو البُعد الأخير (التأثير)، والذي جاء بعد إدراك زيد حقوقه وواجباته، ومن ثم التقييم، لتتكامل عملية الإدراك الواعي ويُبنى عليها التأثير، هذا النموذج يمكن تضخيمه ليشمل كلّ الجوانب الخدمية التي تقدمها الدولة لمواطنيها من أمن، وصحة، وتعليم، وغيره، هذا النوع من الثقافة السياسية هو النوع الأول، ويطلق عليه ثقافة المشاركة السياسية، وهي تنسجم وتعمل في ظلّ نظام سياسي ديمقراطي.
كان الربيع العربي، وما زال، أحد مؤشرات الانتقال من ثقافة الخضوع السياسي إلى ثقافة المشاركة السياسية
بالعودة إلى زيد، فلو فرضنا أنه لا يدرك واجباته ولا حقوقه، وحينما يجري توجيهه للقيام بإجراءات استخراج الأوراق الثبوتية، لا يمانع بشدّ الرحال، ذهاباً وإياباً، عند تردّي الخدمات، ويقبل ما يسمعه من مبرّرات دون أي محاولة لتقييم ما يُقال له، وبالتالي فقدان المقدرة على التأثير، يسمّى هذا النوع بالثقافة السياسية الضيقة/ المحدودة، وهي تصف أفراد المجتمعات الذين لا علم لهم بمدخلات أو مخرجات العملية السياسية، ويعتمدون في المعرفة والتقييم والتأثير على عُمد القرية ورجالات القبيلة وشيوخها، فهم مثلاً، لا يشاركون في عملية انتخابية، ولا يدركون ما المغزى منها، ولا يسعون لمعرفة هياكل الحكومة ووظائفها، وتسود هذه الثقافة في المجتمعات التقليدية، وتتناسب مع أنظمة الحكم التقليدية اللامركزية.
الوجه الثالث والأخير أن يُدرك زيد حقوقه وواجباته، وأن يكون لديه القدرة على تقييم مخرجات النظام السياسي، إلا أنه لا يُدرك أنّ لديه القُدرة على التأثير في النظام السياسي، تكون طبيعة العلاقة بين زيد والنظام هي انتظار زيد الخدمات وعدم المطالبة بها خوفاً من العقاب، جوهر هذه العلاقة يكمن في الخوف من السلطة، والإذعان لها، بسبب العنف الذي تمارسه، هذا النوع من الثقافة السياسية يطلق عليه ثقافة الخضوع السياسي، والتي تتناسب مع الأنظمة التسلطية (شمولية، عسكرية، ديكتاتورية).
يبقى السؤال: هل الثقافة السياسية قابلة للتغيير؟ في حالة ثقافة الخضوع السياسي بمجرّد أن يبدأ زيد بإدراك قدرته على التأثير على النظام السياسي، كان هذا مؤشراً على تفكّك ثقافة الخوف لتبدأ عملية تغيير نوع الثقافة السياسية، وقد كان الربيع العربي، وما زال، أحد مؤشرات هذا الانتقال من ثقافة الخضوع السياسي إلى ثقافة المشاركة السياسية، وهو ما يحيل الأنظمة السياسية وينقلها من أنظمة تسلطية إلى ديمقراطية في حال أدت النخب السياسية دورها بالتزامها بالممارسة السياسية الديمقراطية، وهو المسار الوحيد لمنع حدوث الارتدادات الكارثية، وقد غطى دور النخب السياسية في هذا الشأن بشكل وافٍ الدكتور عزمي بشارة "عن الثقافة السياسية والانتقال إلى الديمقراطية"، والدكتور عبد الوهاب الأفندي "إشكالية الدولة المتخندقة".
أخيراً، كانت مقاربة الدكتور عبد الفتاح ماضي تدور حول قدرة العسكريين أو/ من يتحالف معهم على ترسيخ ثقافة الخضوع السياسي في المجتمع، باستخدام أدوات منها أمننة القضايا والترهيب وغيره، وهو محق تماماً، إلا أنها لم تنجح يوماً في بلوغ الرسوخ لدى الجماهير، والتاريخ القريب يُثبت ذلك، بينما مقاربتي المنشورة بعنوان "الثقافة السياسية والعلاقات المدنية -العسكرية" حول هذا الموضوع، والتي هي بالأصل أطروحة الماجستير في الدراسات الأمنية النقدية من معهد الدوحة للدراسات العليا، تدور حول عكس ما ذهب إليه ماضي، وهو إمكانية التثقيف السياسي للنخب العسكرية، وبالتالي إمكانية تشكيل قيم ومعتقدات مشتركة في الجيش تُعزّز من العملية الديمقراطية.
خُلاصة القول، هناك أمل سيدتي.