أطفال غزّة ومهارات القرن الواحد والعشرين
أنتجت العلوم وتطوّر ممارسات التعليم نظريات عدّة في التربية تهتم بنمو التلميذ لتُعدّه للحياة والتعامل مع متطلّباتها بنجاح، فدعت إلى دمج التلميذ في العملية التعليمية مهما كان انتماؤه أو خلفيته أو التحديات التي يواجهها. إلّا أنّ هذا العلم الحديث بتطوّره ونظرياته التقدميّة لم يأبه لابن غزّة، ولم يشمله ضمن الفئات المجتمعية الهشّة التي تحظى عادةً برعاية تربوية خاصة، بل أنتج جهابذةَ الزعماء الذين زجّوا بطفل غزّة في معسكر اعتقالٍ ضخمٍ دون أدنى مقومات الحياة الأساسيّة، فما بالك بالعناية بتربيته حسب النظريات الحديثة، بما تحتويه، على التفكير النقدي والإبداعي، والمهارات الناعمة، ومهارات القيادة، والتواصل، والتعاون، والمرونة؟
لكن أكثر ما يُذهلني، وأنا التي قضيت عقودًا في التعليم أتنقل بين بيئاتٍ ومؤسساتٍ مختلفة، هو الطريقة التي يُمارس فيها طفل غزة تلك المهارات بعفويةِ وسلاسة، وكأنّه تعلّمها وتدرّب عليها في أفضل مدارس العالم، حتى أصبحت متجسدة في تواصله وسلوكه. ذلك الطفل الذي تحوّلت مدرسته إلى ملجأ يؤويه وأفراد عائلته، وصارت قاعة صفّه غرفة نومٍ مكتظّةٍ يتشاركها مع أبناء حيّه، ذلك الطفل الذي لا يأمن يومه وقُوته، ويعيش وأصوات القصف وصور الموت تلاحقه، ذلك الطفل يجيد مهارات التواصل والإلقاء والإقناع، فنراه من خلال شاشة التلفاز يواجه منفردًا، جمهورًا بحجم العالم، ولا معلّمة بجانبه تُشير عليه ليقف مستقيمًا مواجهًا المُخَاطب، ولا من يُرشده ليحافظ على تواصله البصري مع الجمهور، أو يستخدم لغة الجسد بالشكل الذي يتناسب مع الكلمة. يتحدث هذا الطفل بكلّ ثقةٍ، يعرض حجته بلغة مباشرة وواضحة، ويدعمها بالأدلة والبراهين المتنوّعة، وكأنّه تعلّم فن الحديث في أفضل نوادي المناظرات والخطابة!
أما نحن في باقي دول العالم، فنبذل الوقت والجهد لتعليم التفكير الناقد، ونعمل لاختيار النشاطات والمضامين وطرائق التدريس المناسبة التي في غالب الأحيان يُحرَمُها ابن غزة، ابن أكثر بقاع الأرض عزلة وأصعبها معيشة.
تجاوز طفل غزّة بأشواط المتوقع منه، وهو في خضم الحصار، محرومٌ من أحبابه وأصحابه، بعيدٌ عن مأواه ومسكنه، محرومٌ من أمنه إلى حدّ أن كسرة الخبز تُسرق من يديه الصغيرتين
وفي إطار تعليم مهارات القرن الواحد والعشرين، نحاول كذلك تنمية مهارات الذكاء العاطفيّ لدى طلّابنا. نعلّم التلاميذ تحديد مشاعرهم، وفهمها، وفهم مشاعر الآخرين، وتحديد أثر سلوك الفرد على مشاعر من حوله. يأتي كلّ ذلك ضمن مساعي تعزيز الذكاء العاطفي، ذلك المفهوم الذي دخل مجدّدًا إلى التربية والتعليم، فأصبح من المحاور المهمة في المؤسسات التعليمية. ومع ذلك، ما زلنا نعاني من ازدياد ظاهرة التنمّر في المدارس التي إن دلّت على شيءٍ فإنّما تدلّ على استغلال القويّ للضعيف، واضمحلال التعاطف والتسامح وتقبّل الآخر، ولذلك تُرصَدُ الميزانيات الهائلة للحدّ من هذه الظاهرة الخطيرة المتنامية، التي قد تصل خطورتها إلى انتحار عددٍ غير قليلٍ من الأطفال والمراهقين بسبب ما يتعرضون له من تنمّر، لكنّنا نرى أنّ طفل غزّة قد تجاوز بأشواط المتوقع منه وهو في خضم الحصار محرومٌ أحبابه وأصحابه، بعيدٌ عن مأواه ومسكنه، محرومٌ أمنه إلى حدّ أنّ كسرة الخبز تُسرق من يديه الصغيرتين. فطفل غزة واضح المشاعر، يعرف بمن يثق، ويعبّر عن ثقته بالله، مؤكّدًا أنّ ملجأه هو الله ربّه. يتعاطف مع أبناء محيطه، وتراه مبادرًا، بكلّ طواعيةٍ، في البحث عمن يقبع تحت الأنقاض. يتعاطف طفل غزّة مع المستضعفين أمثاله، ويعرف أنّ عدوه هو الوحيد الذي يستحق غضبه وشتائمه. ينظر في أعيننا من خلال عدسات الكاميرا، وبدلًا من أن ينهال علينا بالشتائم لأنّنا خذلناه وتركناه وأهله بلا ناصرٍ، نسمعه يرتجل، بكلّ ثقة، خطاباتٍ عن واقعه بلغةٍ سلسةٍ ووصفٍ دقيقٍ موضوعيّ، حتى يظن المستمع أنّ التلميذ كتب نصه مسبقًا وعرضه على معلمه ليصحّح له صياغته وينتقي له الكلمات المعبّرة والأسلوب المناسب.
أضف إلى ذلك كلّه صلابة ذلك الطفل، الذي حسب المعايير التربوية، هو من أكثر الفئات هشاشة، الأمر الذي يجعله بحاجة لرعاية خاصة. لكن أرض الواقع لا تتطابق دائمًا مع هذه المعايير، فتلميذ غزة يمارس صلابة عالية في مواجهة الصعوبات التي يتعرّض لها لحظةً بعد لحظة، ويتعاطى مع مشكلاته في وقت نتوقع منه الانهيار والتيه، فيفاجئنا بتجاوزه أوجاعه، منتشلًا نفسه من تحت الأنقاض، حاملًا الدواء لأخته الصغيرة بكلّ حنوّ ولطف، محاولًا أن يدركها هو قبل أن يدركها الموت، آملًا أن تستعيد بعضًا من قواها بدلًا من أن يجد نفسه مع جسدٍ باردٍ آخر.
يقف طفل غزة على ركام مدرسته ليرينا أنّ الصفوف العادية ليست المكان الأفضل لتدريس مهارات القرن الواحد والعشرين
إذن، يظهر طفل غزّة صلابة وتصرّفًا واعيًا عند المشكلات، وندّعي نحن كتربويون أنّها تأتي بفعل تزويد المدرسة المتعلّم بالأدوات المعرفية والعاطفية والاجتماعية الضرورية التي تجهّزه لمواجهة التحديات وتقدّم له الفرص المناسبة للنمو، لكن أين ابن غزة من هذه المضامين الدراسية؟ وأين هو من الخبرات الصفية التي صمّمت لتلك الأغراض؟ ومع كلّ هذا الحرمان التربوي، إلّا أنّه يتمتع بالقدرة على الصمود أكثر من أيّ تلميذ آخر، قادرٌ على مواجهة التحديات بقوة وثبات وعزم على تغيير حاله، مع أنّ الموت يلاحقه في كلّ خطوة يخطيها.
أن نضعه في غرفة صفية ترفٌ من مترفات الحياة، وأن نصمّم له خبرات تعليمية تسمح له بتعزيز العلاقات الداعمة من خلال العمل الجماعي، وأن نعلّمه العطف والصلابة، من المستحيلات في واقعٍ تلاحقه فيه قذائف عدو شرس من كلّ حدب وصوب.
في واقعٍ مرّ لا يكاد يتحمله بشر، يتمتّع تلميذ غزة بمهارات القرن الواحد والعشرين أكثر من نظرائه في العالم الذين ينعمون برغد العيش، وهو المحروم البيئة الآمنة والعلاقات الاجتماعية الداعمة والتعليم غير المنقطع، وبرامج الدعم العاطفي والاجتماعي والأكاديمي، وهي أمور تُعدّ كلّها أساسية لنمو التلميذ. كيف اكتسب ذلك الطفل الأعزل كلّ هذه القدرات؟ لا أملك جوابًا لهذا السّؤال، ولكنّ ما أعرفه هو أنّ هناك سببًا ما جعله متفوّقًا على أقرانه في العديد من المجالات. ربّما كانت المنظومة القيمية التي تربّى عليها، فأصبحت متجسّدة في تفكيره ومشاعره، وانعكست في سلوكه، أو لربّما كانت حاجاته لإيجاد الحلول لمشكلاته في بيئة سحقت مواردها آلات حرب لا ترحم، فاضطر إلى أن يستخدم مهارات تفكير عالية وناقدة.
في كلّ الأحوال، لا تأتي التربية من مصدرٍ واحد، فتحية إجلالٍ لمعلّمه، ولوالديه، ولمجتمعه الذين ساهموا جميعًا في صناعة طفلٍ صلبٍ شجاعٍ، يقف على ركام مدرسته ليرينا أنّ الصفوف العادية ليست المكان الأفضل لتدريس مهارات القرن الواحد والعشرين، وأنّ صانعي النظريات التربوية ومنظريها عليهم أن يتعرّفوا إلى طفل غزّة ويدرسوا القيم التي نشأ عليها ليعدلوا أدبياتهم التي لم نجنِ ثمارها المرجوّة بعد.