أستاذنا حسيب كيالي والممرض سليم

23 اغسطس 2022
+ الخط -

عندما عاود أبو صالح الاتصال بي، بادرته بالاعتذار عن الجدية الزائدة التي (اقترفتُها) معه خلال الاتصال السابق، حينما كنا نتحدث عن تعذيب فرج الله الحلو وإذابة جسده بالأسيد، في عهد الوحدة مع مصر 1959.

وتمهيداً للاستفاضة في هذا الحديث، قلت لأبو صالح إن صديقنا وحبيبنا وأخانا الأكبر "غازي أبو عقل"، الشاعر الساخر الذي لا يُصلى له بنار، ولا يُشَقُّ له غبار، صاحب مجلة "الكلب" الهزلية، ضبطني في إحدى المرات متلبساً بالحديث عن أستاذنا حسيب كيالي، قائلاً إنه كان يتقن "الاستطراد" في رواية القصص، فكتب لي منبهاً إلى أن حسيباً نفسه كان يتجنب استخدام مصطلح الاستطراد، لما فيه من معانٍ سلبية، ويفضل عليه مصطلح: الاسترسال.

قال أبو صالح: يا سلام على لغة الكبار. طيب أخي أبو مرداس. إذا سمحت تابع استرسالك..

- حاضر. خلال اتصالك السابق، ضربتُ لك مثالاً بالمريض الذي تُعَالَجُ الطبقةُ الخارجية من جروحه، وتُتْرَكُ الجروح الداخلية بلا تعقيم، فتحصل له، إثر ذلك، مضاعفات خطيرة..

- صحيح.

- موضوع الجروح والتعقيم جعلني أتذكر قصة كتبها أستاذنا الكبير حسيب كيالي سنة 1992، في مجموعته القصصية "نعيمة زعفران"، عنوانها (يَفتح، وتعالَ يا سليم رَجِّعْ).. كتب الأستاذ حسيب، في مقدمة القصة، تنويهاً إلى أن أحداثها جرت في إدلب، وقد أرسلها إليه بعض الأصدقاء المعتادين على تزويده، (وهو المقيم في دبي)، بأخبار مدينته إدلب أولاً بأول. الجميل في الأمر أنني أعرف (سليم) بطلَ القصة شخصياً، وهو رجل شبه أهبل، كان يشتغل بصفة مستخدم (فَرَّاش) في عيادة طبيب مشهور مختص بالأمراض الداخلية، اسمه "فيصل". كانت مشكلة الدكتور فيصل أنه رقيق القلب، حساس جداً، ولذلك لم يكن يمارس أي نوع من الجراحة، حتى الإبرة التي تُحقن للمريض في العضل، لا يحقنها لأحد بنفسه، بل يستعين بممرض خاص لهذا الغرض! وهكذا نكون قد وصلنا إلى المكان الطريف من الحكاية، وهو أن بطلنا شبه الأهبل سليم، كان كذاباً أشراً، ففي ذات يوم، غضب منه الدكتور فيصل، وطرده من العيادة.. فصار يمشي في شوارع المدينة وأزقتها، متلفتاً يمنة ويسرة، حتى إذا سأله أحد أبناء الحارة: أشو قصتك يا سليم؟ كأنك تركت الشغل عند الدكتور فيصل؟

قال فيصل وهو يخفي ضحكته: أحب عمل الخير، ولكنني أحبه على الناشف، بدون طين

يقول بثقة الكذابين المعتادة: نعم. تركت. رميت له مفاتيح العيادة في وجهه، وقلت له يا فيصل، غناني الله عن الشغل عندك!

ثم يقرب وجهه من وجه الشخص الذي سأله، ويخفض صوته، ويقول: بيني وبينك؟ أنا مليت من الشغل عند الدكتور فيصل، طول النهار يفتح بطون المرضى، ويُجري عمليات جراحية معقدة، ويقول لي: تعال يا سليم، رَجِّعْ كل شي لمكانه، وخَيّط! مليت من إعادة الكبد والرئتين والبنكرياس والزائدة والمصارين كل شي لمكانه.. من دون يمين صار لي عضلات من كثرة ما خيطت جروح. بعدين هذا فيصل لماذا يشتغل بالطب؟ والله إذا اشتغل قصاب (لَحَّام) أحسن له!ضحك أبو صالح وقال: حلو.. الدكتور فيصل قصاب، وسليم خياط!

- نعم. وسليم هذا له قصص كثيرة مضحكة، غير التي رواها استاذنا حسيب.. منها أن الدكتور فيصل، قبل أن يطرده، كان يعتمد عليه في تنظيف العيادة بالدرجة الأولى، وأحياناً يرسله ليسدد فاتورة الماء أو الكهرباء أو الهاتف. وذات مرة، أعطاه خمسا وعشرين ليرة سورية، قطعة واحدة، (وكان هذا المبلغ، يومئذ، ذا قيمة شرائية عالية)، وأرسله إلى مديرية المالية ليسدد إيصالاً مالياً قيمته ثلاث ليرات وربع. نظر الجابي إلى قطعة الـ25 ليرة، وصفر بفمه، وقال لسليم: أف. 25 ليرة؟ ألا يوجد معك قطعة أصغر؟

فابتسم سليم بتعالٍ واستهزاء، وقال له: يا مسكين، خفت من الـ25 ليرة؟ فكيف إذا أخرجتُ لك القطع من فئة الـ100 ليرة، من جيب الطيـ...؟ (الجيب الخلفي)؟ 
قال أبو صالح: هل تريد الصراحة؟ هذا كذب واضح ولكنه رائع!

- طبعاً. لا تنس أن أجر سليم كان، في تلك الأيام، ليرة ونصفا في الأسبوع، وأبوه، هو الآخر، فقير مفلس، فمن أين تأتيه قطع الـ100 ليرة؟ لكن الكذب في طبعه. وقد سببت له كذبته على الجابي، وقتئذ، مشكلة عويصة.

- بجد؟ ماذا حصل؟

- بعدما دفع سليم الإيصال، ووضع تتمة الـ25 ليرة في جيب بنطاله الأيمن، خرج من مبنى المالية، متجهاً إلى ساحة البازار، وعند منعطف الشارع، فوجئ بماء لزج يُسفح تحت قدميه، فتزحلق، وراح على طوله، وعلى الفور نزل فوقه شاب ملثم، ثبت قدميه ويديه على الأرض، ومد يده إلى جيبه، أخذ النقود التي هي تتمة الـ 25 ليرة، ثم راح يفتش في الجيب الخلفي (جيب الطيــ..)، فلم يجد فيه شيئاً، فوقف، وبصق عليه، وقال له: أنت واحد كذاب، أين القطع من فئة الـ 100 ليرة التي حكيت عنها يا واطي؟

- رائع. القصة الآن أصبحت تراجيدية. - أنا أرى أن حياة الرجل المسطول، مثل سليم، كلها تراجيديا، ولكن تصرفاته التي تقوم على المفارقة بين الواقع البائس والعقلية التي تحاول التعويض عن النقص بالكذب هي التي تضحك.

- ممكن توضح لي أكثر؟

- حينما سئل سليم عن سبب تركه العمل في عيادة الدكتور فيصل، كان المفروض به أن يحكي للسائل أنه قصر في التنظيف، أو أخطأ بترتيب غرفة الانتظار، أو تأخر في رمي الزبالة في الحاوية، فعاقبه الطبيب، ولكن محاولته التغطية على الواقع هي التي أضحكتنا، لا سيما حينما قال إنه منهمك دائماً بخياطة جروح المرضى بعد إعادة الغدد والأمعاء إلى أماكنها.. ولو قال للجابي إنه لا يملك أي نقود، ومبلغ 25 ليرة التي يحملها ليست له أساساً لما تعرض لمحاولة السرقة. على كل حال أنت لم تسمع تتمة الحكاية.

- لم أسمعها، ولكنني أتخيل أنه عاد إلى العيادة وثيابه ممرغة بالطين، وصار يبكي لكي يسامحه الدكتور لأنه فقد تتمة النقود.

- أبداً، لم يحصل هذا، فحينما سأله الطبيب عن تتمة المبلغ وسبب تلوثه بالطين قال له: (قل لي أنت يا دكتور، هل تحب عمل الخير أم لا؟).

قال فيصل وهو يخفي ضحكته: أحب عمل الخير، ولكنني أحبه على الناشف، بدون طين.

قال سليم: عظيم. انتظرني إذن حتى أذهب إلى دارنا، وأغير ثيابي، وأعود، وأحكي لك القصة من طقطق للسلام عليكم.

(للقصة تتمة)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...