أزمة الثقافتين وثقافة العلم
عبد الحفيظ العمري
"هذا زمان العلم أم الأدب؟!"
العلوم الإنسانية أم العلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء وخلافه؟
زمان مَنْ؟!
المشتغلون في الآداب والعلوم الإنسانية ملأوا الدنيا شعراً ونثراً ودراسات بلاغية وغيرها. والناظر في هذا الزمان يرى التقنية الحديثة وقفزاتها الباهرة التي ملأت الآفاق، بحيث أصبح بين الاكتشاف والآخر وقت قصير، فظهر لهذا التباعد بين هذه العلوم بعضها عن بعض مصطلح أزمة الثقافتين.
ما هما الثقافتان؟!
لعل أول مَنْ طرح هذا المصطلح هو المفكر الإنكليزي تشارلز سنو Charles Snow في محاضرة ألقاها عام 1959م في جامعة كامبرج Cambridge University ببريطانيا، تحولت تلك المحاضرة إلى كتاب اسمه الثقافتان، حيث شرح فيها الشرخ الموجود بين هاتين الثقافتين، وتباعدهما بعضهما عن بعض، ما يمثل خطراً على الجميع، إذ قال: "إن بين المفكرين في مجالات العلوم الإنسانية وبين علماء الطبيعية شكوكاً عميقة متبادلة وسوء فهم، ما يؤدي إلى نتائج وخيمة على مستوى تطبيق التكنولوجيا".
هذا الكلام يقودنا إلى سؤال: ما مدى عدم الترابط بين أهل الثقافتين؟
فهل ما تصور المفكر (سنو) حقيقة؟!
أقول التباعد ظاهر ولا محالة، وذلك لتفرع التخصص أكثر فأكثر إلى تخصصات أكثر دقة؛ فلم تعد الفيزياء، على سبيل المثال، علماً واحداً يشمل كل فروعها، بل على العكس؛ فمع الزخم الهائل لمعلومات الفيزياء، احتاج الأمر إلى تفرع الفيزياء وتفريخها علوماً أدق، فلدينا الفيزياء النسبية والنووية والذرية وفيزياء الجوامد وغيرها.
وعلى ذلك فقسْ أغلب التخصصات بما في ذلك العلوم الإنسانية أيضاً، فأدى هذا إلى أزمة الثقافات المتعددة، وليس الثقافتين فقط.
أزمة أكبر
وهكذا كبرت الأزمة أكثر فأكثر مع التفريخ الحاصل في كل تخصص والعلم الدقيق في كل فرع، فزادت الفجوة بين الأطراف المتباعدة بل وبين الأطراف المتشابهة؛ فأصبح الدارس علمَ الفيزياء النووية، على سبيل المثال، يحيط بشيء يسير من علوم الكيمياء العامة الذي له ارتباط بتخصصه، لكنه سيكون أكثر تباعداً عن علوم الحياة، وهذه كلها من التخصصات العلمية، فكيف يكون الحال مع التخصصات الإنسانية والأدبية؟
أليست المشكلة أعظم؟!
أصبحت شجرة العلم (باسمه الجامع) تزداد تفرعاً وتباعداً في الوقت نفسه، حتى يجد الناظر نفسه أمام كم هائل من المعارف الإنسانية والعلمية ودقائقها التي لم يعد يحيط بها لا علماً ولا ثقافة، وأصبح المتعمق في تخصص معين جاهلاً في تخصصات عده بسبب هذا التضخم؟!
العلم كثقافة
ما الحل؟!
ماذا يفعل المتخصص كي يلم بباقي العلوم ولو من باب الاطلاع؟! وأكثر منه تساؤلاً: ماذا عن الهواة الراغبين في العلم؟!
الحل، كما أراهـ، هو في إشاعة العلم (باسمه الجامع) على شكل ثقافة؟!
في هذا الزمان، وفي ظل هذه الإشكالية التي وضحناها، يكفي المتخصص أن يُلم، إلى جانب تخصصه، بفكرة عن هذه العلوم الأخرى، وهذه الفكرة التي نتحدث عنها تقع مسؤولية نشرها على صاحب التخصص نفسه؛ بحيث يعطي للمطلع غير المتخصص نبذة أو ملخص بسيط قابل للاستيعاب عن هذا التخصص.
لذلك أدعو أن يرفع كل واحد منا شعار العلم كثقافة في تخصصه؛ بحيث يعطي للآخرين فرصة الاطلاع والفهم عن ماهية تخصصه وموضوع اهتمامه، هكذا نستطيع أن نرمم الشرخ الموجود بين الثقافات المتنوعة بتبسيط العلوم للجمهور المتطلِّع من المتخصص وغيرهم، وذلك بجعل الوعي العلمي (بنوعه الإنساني والطبيعي البحت) منتشراً ومتاحاً للجميع.
وقد تبنّى هذا المنحنى (على نطاق العلم الصرف) نفر من المهتمين بالعلم، وأصدروا في هذا المجال عدداً من الكتيبات، منهم على سبيل الذكر لا الحصر، د. أحمد شوقي في كتابه (العلم ثقافة المستقبل) ود. سمير صادق في كتابه الممتع (دردشة في العلم)، وكتابه الآخر (حكايات عالِم عجوز)، وغيرهم من الكتّاب والكتب.
***