أبو نبهان يسرد تفاصيل جريمته
صَوَّرَ لي "أبو عناد جلد الضفدع" مشهدَ الشجار الذي احتدم بين "أبو نبهان الطَرَّار"، وأبو حزينا، في باحة جامع أبو بكر الصديق، بطريقة جعلتني أتذكر المقطع الأول من رواية "الياطر" لكبير الروائيين السوريين، الراحل حنا مينة، الذي يبدأ باعتراف بطل الرواية زكريا المرسنلي، بأن ابنه قَتَلَ أحدَ البحارة، وقلت لنفسي إنه مشهد مثير جداً، منح كاتبَه فرصةً نادرة لكتابة عمل أدبي مشوق..
وأما المشهد الذي رسمه أبو عناد فكان مختلفاً، لأنه قائم على الالتباس: أبو نبهان رفع الأبريق البلاستيكي، وهمَّ بضرب أبو حزينا على رأسه، وهذا أدى إلى وقوع "أبو حزينا" مغمياً عليه، وأغلب الظن أنه مات، فهل يمكننا في هذه الحالة القول إن أبو نبهان قتله؟!
قبل أن يكمل أبو عناد سرد القصة، سألته:
- برأيك؛ هل يتضايق أبو نبهان من رواية القصة لنا، فيما لو ذهبنا إليه أنا وأنت، وطلبنا منه ذلك؟
- لماذا نذهب إليه ونسمعها منه؟ ألم تعجبك روايتي؟
- بالعكس، أنت معلم كبير في القص، ولكنني، بعدما عرفتُ "أبو نبهان" عن قرب، ووجدتُ أنه شخصية طريفة، فأحببتُ أن أسمعها منه، بوجودك، فأنت، في هذه الحالة ستلعب دور "محراك التنور" على نحو رائع.
- لا أظن أنه يتضايق. ولكن الذهاب لزيارته مكلف، وأنا، كما تعلم مفلس على الحديدة.
- كيف مكلف؟
- الرجل، كما أخبرنا، عندما التقينا به، يعيش الآن من قلة الموت، وزوجته، عندما تطعمه تلف على رقبته "دقونة"، وأنا لا أستبعد أنها (تُحفضه)، لكيلا يبوّل في ثيابه، فهل يعقل أن نذهب أنا، كبير ظرفاء مدينة إدلب، وأنت الكاتب الذي ظن أبو نبهان أن اسمك مستعار، إليه، ونحن نلولح بأيدينا الفارغة؟
ضحكت وقلت له: تضرب في شكلك يا أبو عناد، لم يبق غير أن تقترح عليَّ أن أشتري له من الصيدلية دقونات وحفوضات!
قال: لا. أنا لا أقبل أن نأخذ ما يُشعره بضعفه ومرضه. الأفضل أن نأخذ له تشكيلة من الفواكه. ما رأيك؟
قلت موافق. واشترينا فواكه. وذهبنا إليه.
استقبلنا أبو نبهان بحفاوة. قال:
- عندما يأتي أحد لزيارتي أكون مسروراً. أقسم بالله، أنا كرهت زوجتي، وهي كرهتني لأننا طوال النهار لا نفترق. البقاء في المنزل على الدوام يا شباب شيء لا يطاق. عندما تظهر الشمس في شهر شباط (فبراير) يأتي حفيداي نادر وماهر، ويأخذاني مشواراً في السوق، أشم رائحة الدنيا وأرجع.
قال أبو عناد: يا أبو نبهان، هذا، الأستاذ خطيب، أصر على زيارتك بصحبتي. بصراحة؟ الزلمة له مصلحة في سماع قصتك مع المرحوم أبو حزينة. وقبل أن تسألني عن السبب أنا سأقول لك.
- قل.
- معظم الكتاب عندنا بلا تجارب. ولذلك هم يعيشون على حساب الآخرين. يسمعون حكاية جرت أحداثها مع زيد من الناس، فيسعون لمعرفة تفاصيلها، ويكتبونها، وينشرونها في الجريدة، ويقبضون عليها مصاري.
ضحك أبو نبهان، حتى صار صدره يخشخش:
- يعني يريد أن يسترزق من وراي.
وقال لي: يا طالب الدبس من (ط**) النمس كفاك الله شر العسل.
هذه الضحكة؛ كانت دليلاً ساطعاً على أنه أصبح رائقاً. حكى لنا كيف أنه، بعدما وقع أبو حزينا على الأرض بجوار جب الماء في الجامع، خاف، ووقع بجواره، على أساس أنه مغمي عليه، ولكنه اكتشف أنه يكذب، وأنه بهذا التصرف الجحاشي سيجعل القبض عليه سهلاً، فنط، ووقف، وصاح صيحة مرعبة مكنته من الخروج من المسجد شاقاً الطريق بين جموع الناس الذين تجمعوا في المكان، واستمر يركض على غير هدى، مفكراً في الذهاب إلى الدار، والتنبيه على أم نبهان ألا تعترف بأنه موجود، ولكنه حسب حساباً أن الشرطة، قد يفتشون البيت، ويعثرون عليه وهو مختبئ في غرفة المؤونة بين تنكات الزيت وأكياس العدس والبرغل وقطرميز المخلل والدبيركة، وهنا خطرت له فكرة أن يذهب إلى خربة جرناز، وهي مكان داشر، فيه شقة بدون قفل، لا يمكن للجن الأزرق أن يصل إليه فيها، فقعد وصار كلما جاع يمشي إلى أول البلدة، يشتري شيئاً لطعامه وشرابه ويعود، ويبدو أن أولاده وأحفاده كانوا يبحثون، فوصلوا إلى الدكان، وعرفوا من صاحبه أنه يأتي إلى هنا، فتابعوا البحث عنه، حتى وجدوه، وطمأنوه إلى أن تقرير الطبيب الشرعي أفاد أن أبو حزينا، الله يرحمه، لا توجد أية آثار ضرب على أي مكان من جسمه، ما يعني أنه مات باحتشاء عضلة القلب، بسبب الانفعال الشديد، وعلى هذا الأساس ذهبوا إلى صهره، زوج ابنته حزينة، وطلبوا منه أن تذهب حزينا وشقيقاتها الثلاث إلى المخفر، ويسقطن عن أبو نبهان الحق الشخصي، ففعلن، والقضية الآن أصبحت قضية "حق عام"، وبعدما مضى 48 ساعة، انتهت الملاحقة القانونية، وأصبحت القضية عادية، وعندما يطلب للمحاكمة سيذهب بصفته "شاهد حق عام".. وبالفعل انتهت.
سألته: هذا عن الحق العام، ولكن أنت، بينك وبين نفسك، هل تشعر بتأنيب الضمير؟
ابتسم بأسى وقال: أنا في حياتي عامل ألف شغلة تخليني اشعر بتأنيب الضمير، أظن أن هذه أصغر واحدة فيها. الدنيا مضيانة يا أستاذ. أيش يفيد الندم؟