أبو عناد وقميص البالة
أبدى أبو صالح إعجابه الشديد بحكاية بطل سيرتنا "أبو عناد" مع صديقه أبو سالم الذي سافر إلى الجزائر، وكان قد وعده، قبل السفر، بأنه سيمطره بوابل من الشيكات والحوالات، ويجعله يقبر الفقر، ويعيش عيشة السلاطين، ولكنه أخلف بوعده، وأرسل إليه، بعد سنة من السفر، رسالة مسجوعة يحدثه فيها عن طيب إقامته في الجزائر، فما كان من أبو عناد إلا أن هجاه برسالة مسجوعة من كعب الدست.
- ولكنك، يا أبو مرداس، تركتني في ذروة العقدة القصصية، وأغلقتَ الخط، بعد أن وعدتني بإتمام القصة في الاتصال القادم.
- اعلم، يا أبو صالح، أنني أفعل ذلك لسبب وجيه، وهو أنني أنشر تفاصيل حواراتنا في مدونة "إمتاع ومؤانسة"، بصحيفة "العربي الجديد"، ولا أريد أن أطيل على القراء.. وعلى كل حال إليك التتمة:
عاد أبو سالم من الجزائر إلى إدلب، في الصيف، وأول شيء فعله أنه زار صديقَه أبو عناد، وقال له إنه سُّرَّ بالرسالة التي هجاه فيها، ونَسَخَها بخط الرقعة، بأحرف كبيرة، وعلقها في صدر منزله، كما لو أنها تحفة، وكلما زاره أحد من أصدقائه، يحكي له قصتها، ويطلعه عليها، وفجأة قال:
- هل تعلم، يا أبو عناد، ما هي الفائدة من إرسال رسالة مضمونة مني إليك، دون أن يكون فيها أي مبلغ من المال؟
رد أبو عناد بغيظ: أشو هالحكي؟ كمان لها فوائد؟
- طبعاً. فوائدها كثيرة، أهمها أنها حرّضت مكامن الإبداع فيك، فكتبتَ لي تلك المقامة العظيمة. وأما عن المال، فهذا آخر همك. هل أنت ممن يسألون عن المال؟ أنت عينك شبعانة والحمد لله!
- تضرب في منظرك يا أبو سالم، أنا عيني شبعانة؟ يشهد الله أنّ أكبر قطعة نقدية أتعامل بها من فئة 50 ليرة، فمعتمد الرواتب يعطيني، كل شهر، 50 و25، وعشرتين، وبضع قطع معدنية، وأما بقية راتبي فيأخذها الدائنون الذين يكمنون لي عنده.. وصدقاً أنا لم أرَ قطعة العملة من فئة 100 ليرة منذ سنتين. ولكيلا يذهب ذهنك لبعيد، أنا رأيتها مع صديق لي، يعني أنها لم تكن لي.
هنا فَجَّرَ أبو سالم مفاجأة من العيار الثقيل، إذ إنه أخرج من جزدانه قطعة 100 ليرة، وأعطاها لأبو عناد وهو يقول:
- أمسك. هذه مائة ليرة، قطعة واحدة، خذها.. ولكن بشرط.
- ما هو؟
- تعتبرها دَيْناً لي عليك، وتعدني بتسديدها خلال عودتي من الجزائر في العطلة الصيفية القادمة.
أمسك أبو عناد بقطعة المائة ليرة، دحشها في جيبه، وهو يقول:
- أعيدها إليك إذا بقينا، كلانا، على قيد الحياة. فإذا متَّ أنت، غير مأسوف عليك، أو متُّ أنا، غير مأسوف عليّ، تسقط وكأنها لم تكن. وأريد أن أنبهك إلى مسألة أخرى، وهي أنك أنت الدائن، وأنا المديون، والورثة لا علاقة لهم بالموضوع. اتفقنا؟
- اتفقنا.
الحقيقة أن مبلغ الـ 100 ليرة الذي أخذه أبو عناد من أبو سالم أعطاه دفعاً نفسياً ومعنوياً كبيراً، فقد أمضى، بعد هذه الحادثة، عدّة أيام وهو يصرف و(يجخ)، وصارت مادة اللحوم هي الرئيسية في مطبخه..
الحقيقة أن مبلغ الـ 100 ليرة الذي أخذه أبو عناد من أبو سالم أعطاه دفعاً نفسياً ومعنوياً كبيراً، فقد أمضى، بعد هذه الحادثة، عدّة أيام وهو يصرف و(يجخ)، وصارت مادة اللحوم هي الرئيسية في مطبخه، وحتى الحلويات فقد أصبح أولاده يتذوقونها، وصاروا يعرفون الفرق بين الكنافة أم النارين، والشعيبيات بقيمق، وبين المشبك والزنكل.. ولكن هل تعرف ماذا جرى على الضفة الأخرى، يا أبو صالح؟
- ماذا؟
- صار أبو سالم يتسلّى بأبو عناد، ففي كل لقاء بينهما، كان يذكر له الـ 100 ليرة بطريقة ما، فمرة يقول له: احسب حسابك، صديقي أبو عناد، أنا مسافر إلى الجزائر بعد أسبوعين، وأريد أن أجمع ديوني من الناس، قبل أن أسافر، لأن الدنيا قضاها بلاها.. ومرّة يقول له: لا تهتم صديقي أبو عناد، بالنسبة للـ 100 ليرة، إذا لم تستطع تأمينها لي أثناء وجودي هنا، ادفعها لشقيقي عموري.. ومرة يقول له: بالنسبة للـ 100 ليرة لا تلزمني في الوقت الحاضر، في إجازتي القادمة تدفعها لي. ومن أغرب ما حصل، أنه زاره، ذات مرة، برفقة زوجته أم سالم، وعندما قدمت لهما أم عناد واجبات الضيافة، قال لها:
- يقولون في الأمثال، يا أختي أم عناد، إنّ الفرس من خَيّالها، وأنت يجب أن تكوني صمام الأمان بالنسبة لزوجك، لأنه رجل مبذر، متلاف، تصوّري أنه مدين لي بمائة ليرة، وعليه ديون لأناس آخرين تتجاوز الخمسمائة ليرة، ومع ذلك يركب في باص الحاج محمد سفلو، ويسافر إلى حلب، ويتعشّى في مطعم العندليب، ويفصّل قمصانه عند موسيس الأرمني، يعني، عدم المؤاخذة، إذا مات أبو عناد، وبقيتم أنتم أحياء، ستمضون سنين طويلة وأنتم تدفعون للدائنين ديونهم، وما هي هذه الديون؟ إنها ثمن أشياء لا لزوم لها، فبدلاً من أن يأكل الشقف والكباب والشرحات في مطعم العندليب، يمكنك أن تدرجي له رغيفاً بزيت ودبيركة، أو تقلي له بيضتين، مع صحن لبن خاثر، ويأكل ويحمد الله.. وأنت تعلمين أن الثياب المستعملة (البالة) ملأت الأسواق، فبدلاً من أن يفصل قميصه عند موسيس بعشرين ليرة، يشتري أحسن قميص أوروبي مستعمل، من البالة، بنصف ليرة.
أثناء وصلة التوبيخ التي قدمها أبو سالم، كانت أم عناد تتوّقع من زوجها ردّاً نارياً على صديقه، ولكنه قال:
- والله يا أم عناد، أنا أحب صديقي أبو سالم، خصوصاً عندما يتمشدق ويحكي بالنحوي، والحقيقة أن كلامه، في ما يتعلق بمطعم العندليب، صحيح. وأنا كما تعلمين، لا أجادل في الكلام الحق. ولكنني لا أستطيع ارتداء قميص من البالة.
قالت أم عناد، وهي لا تقل مرحاً وذكاء عن زوجها: معك حق، فقد يكون الرجل الأوروبي صاحب القميص الأصلي جرباناً أو مقملاً، فتنتقل الأمراض الجلدية إليك.
قال: لا والله يا حبيبتي، ليس هذا هو السبب. فالأمراض الجلدية لا تنتقل بواسطة ثياب البالة، لأنّ التجار يضعون بينها نفتالين، ويعقمونها.. أنا أرفض هذه القمصان لأنها تأتي من دون جيوب. من مدّة التقيت بالدكانجي أبو فوزي، كان يركب بسكليته، ويضع في فمه عدّة أوراق مالية، يبدو أنه حصَّلها من أحد زبائن دكانه، لأن القميص من البالة، وبلا جيوب. وأنا سلمت عليه، قلت له:
- كيفك أبو الفوز؟
فقال لي: أهلين أبو عناد.
ووقعت الأوراق المالية من فمه على الأرض، وتطايرت في الهواء، فغضب ونزل من على البسكليت وصار يركض وراءها، وأثناء ذلك يبهدلني ويقول:
- تضرب في شكلك يا أبو عناد. لو لم تسلم علي لما وقعت المصاري من فمي!
(للسيرة تتمة)