أبو عناد جلد الضفدع اللميع

07 نوفمبر 2022
+ الخط -

كان السوق، في الأيام الخوالي، مكاناً اجتماعياً تُصْنَعُ فيه القصص والطرائف، ويَعرف الجالسون فيه ما يجري في البيوت، من خلال البوح، والحديث الدائم عن الهموم والمشاكل والعقبات التي تعترض كل واحد من أصحاب الدكاكين. وكثيراً ما كان يأتي ابنُ واحد من أصحاب الدكاكين، ويقول لأبيه، أمام الجميع:

- ياب، قالت أمي إن مؤونة الزيت نفدت. اشتر لنا زيتاً.

ويأتي آخر ويقول: الحقنا، ياب، أخي ماهر عالق مع جارنا فلان، ويتضاربان بالعصي والسكاكين.

هذا ما قلته لأبو صالح في اتصاله اليوم، فضحك وقال:

- اليوم تنزل إلى السوق، فترى معظم الدكاكين قد صُنِعَتْ لها واجهات زجاجية، وأبواب داخلية، وحتى الباب الذي يُفتح عندما تقترب منه، ويغلق أتوماتيكياً بعد عبورك من أمامه، أصبح شائعاً. وبدلاً من أن يجلس كل جار مع جاره ويبثه همومه، ترى كل واحد منهما مبحراً في شاشة موبايله مثل ضرابي المندل، والزوجة لا ترسل ابنها لتخبر الزوج بمشاكل البيت، بل تكتب له ذلك على واتساب..

- لكل عصر، يا أبو صالح، قصصه وحكاياته وطرائفه. هل تعرف كيف كان الفلاحون، في السابق، يشغِّلون التركتور إذا كانت بطاريته نافدة؟ كانوا يلفون حبلاً حول أسطوانة موجودة في أحد جانبيه، ويقف ثلاثة أو أربعة رجال وراء بعضهم البعض، ويعدون: واحد اثنان ثلاثة، ويشدون الحبل بقوة، فتدور الأسطوانة بسرعة، ويشتغل التركتور. وإذا نفدت البطارية في سيارة ما، فإن سائقها يجلس وراء المقود، ويترقب الشارع بالمرآة، فإذا رأى شباناً قادمين، يُخرج رأسه من الشباك، ويقول لهم برجاء:

- دفشة شباب.

فيدفشونه، وبعد أن تدرج عجلات السيارة مسافة عشرة أمتار، يعلق السائق (الغيار) فتشتغل السيارة وتنطلق، وبعد ذلك يوقفها، ويشكرهم ويتابع طريقه. وبعض السائقين المدفوشين يفوتهم أن يشكروا الدافشين، فينتقدونه، وقد يسبونه، ويحلفون ألا يدفشوه في مرة قادمة. هذا الحديث يذكرنا بمشهد من مسرحية "ميس الريم" للأخوين الرحباني، حيث تغني فيروز:

هالسيارة مش عم تمشي

بدنا حدا يدفشها دفشي

بيحكوا عن ورشة تصليح

ما عرفنا وين هيي الورشي

قال أبو صالح إن تشغيل السيارة دون بطارية، حل رائع، يساعد السائق على تشغيل سيارته والذهاب إلى المنطقة الصناعية، وشراء بطارية جديدة، على الفور.

- أنت، يا أبو صالح، تتحدث عن قلة قليلة من السائقين المقتدرين مالياً، الذين يشترون بطارية جديدة فور نفاد البطارية القديمة، ولكن على علمي، أكثر السائقين كانوا يتركون سياراتهم بلا بطارية، ويعتمدون بشكل أساسي على الدفش، أو الكَرّ. ألم يصف امرؤ القيس حصانَه بأنه مِكَرٌّ مفرٌّ مقبلٌ مدبرٌ معاً؟ 

- بلى.

- والسائق الشاطر، قائد السيارة ذات البطارية المنتهية، مكر مفر، لذلك كان يبيت سيارته في مكان مرتفع، وفي الصباح يُفلتها، (يكرُّها) في الطريق المنحدر، حتى تشتغل دون اللجوء إلى استجداء المارة بقوله "دفشة يا شباب". ولم يكن نادراً أن ينتقد زيدٌ من الناس عَمْراً، ويصفه بالبخل، فمثلاً، يقول زيدٌ لامرأته:

- أخوكِ المحترم "عمرو" عنده موعد أسبوعي ثابت يوم الخميس الساعة 11، قبيل الظهر، يدخل البنك التجاري ومعه حقيبة مليئة برزم النقود، يودعها في حسابه، وهو يشبه البخيل، في العصور السابقة، الذي كان يخبئ القطع النقدية المعدنية في المطمورة، ويقول لها: رني رناتك- وانزلي لعند رفقاتك- الله لا يحيجني لطلعاتك.. وأما أخوك عمروٌ، ومع كل هذا الرصيد البنكي الذي يملكه، تبقى سيارته العتيقة بلا بطارية، والرجال والأولاد يدفشونه في الشوارع والأزقة.

قال أبو صالح: هل تعرف سيارة المرحوم "أبو عناد"؟

- طبعاً أعرفها، و"أبو عناد" نفسه كان صديقي، وهو شخصية فكاهية من الطراز الرفيع. الجانب المضحك من شخصية أبو عناد يتجلى في أنه لا يضحك، وكل ما يقوله يبدو كلاماً جدياً، مئة بالمئة، وأحياناً يتحدث، فيفرط الجالسون حوله من شدة الضحك، وأما هو فينظر إليهم دون أن يبتسم.. كانت لديه سيارة ستروين فرنسية موديل 1962، اشتراها بمبلغ صغير جداً. سألته: لماذا هي رخيصة مع أنها فرنسية الصنع؟

- لأنني اشتريتها على عيوبها.

- وما هي عيوبها؟   

- والله يا أستاذ، على حسب ما قال صاحبها، إن عجلاتها منتهية الصلاحية، وأحياناً تخلط الماء بالزيت، وفوق كل هذا بطاريتها فارغة، تحتاج إلى تبديل فوري. قلت لنفسي: العجلات ليست مشكلة، إذا ثقبت إحداها نلصقها، وكذلك خلط الماء بالزيت، له حل، وأما البطارية فالمفروض بي أن أبدلها حالاً. وكان قد بقي معي، بعدما دفعت ثمن السيارة، 25 ليرة سورية فقط. ذهبت إلى المنطقة الصناعية لأشتري بطارية جديدة، فقال لي بائع البطاريات: البطارية الجديدة ثمنها 80 ليرة. أجلت شراء البطارية، وقلت لنفسي أعتمد مبدئياً على الدفش، ريثما يصير معي ثمن بطارية. وأحسن شيء أن أظهر، وأنا أسوق سيارتي، بمظهر الأساتذة المحترمين، فذهبت إلى مخزن "عجان التنك للألبسة الجاهزة"، واشتريت طقماً لونه (جلد الضفدع) مصنوعاً من مادة مشمعة، لذلك كان يلمع تحت الشمس. صدقني، عندما اشتريته، ونزلت فيه إلى السوق صرت (فرجة)، وكأنني الرجل الوحيد في العالم الذي يرتدي جلد الضفدع اللميع!

- طيب اشلحه.

- والله هذا أول شيء خطر ببالي. ذهبت من توي إلى الدار، وبدأت أشلح الطقم منذ عبوري الباب الخارجي، وقررت أن أرتدي الطقم الذي خضت فيه غمار عرسي الميمون. كان طقماً ذا ياقة عريضة، لونه "أوهرا" (بيج)، وكنت قد فصَّلته عند ابن بلدنا أبو راسم، ولئلا يتخ وتقرضه حشرة (العثة)، علقته في الخزانة، ووضعت في جيبه كُرات من النفتالين. وكان قد مضى عليه وهو معلق خمس عشرة سنة تقريباً، المهم أخرجته، وصرت أضربه بالحائط، لكي يخرج منه الغبار المعشش فيه، وفوجئت عندما ارتديته أن الخيطان التي تمسك أزرار البنطال الأمامية، قد اهترأت، وبدأت الأزرار تسقط وتدرج على الأرض، وأنا ألحقها، وألقي بنفسي عليها مثل القتيل، لألتقطها، ولكن، دون جدوى، فاستعضت عن الأزرار بدبابيس شكالة، لأنه ليس من اللائق أن أمشي وبنطالي مفتوح من الأمام. وصرت، حينما أمشي، أحاول أن ألف ساقي على بعضهما، للتمويه، مثل طائر (الحاج لكلك)، وبعد أول طلعة، وأعين الناس كانت تنهمر (خص نص) فوق مكان الدبابيس الشكالة، عدت إلى الدار، وشلحت الطقم الأوهرا، وارتديت الطقم جلد الضفدع اللميع، وأنا أقول في نفسي: أبشع من القرد لم يمسخ الله. وهكذا حتى اقترن اسمي بطقمي، وصرت أعرف في إدلب باسم "أبو عناد جلد الضفدع اللميع".

(للحديث صلات)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...