أبو سمعو والمتنفذ ذو اليد المكسورة
حكيت لكم، فيما مضى، عن رجل من مناطقنا اسمه "أبو سمعو"، كان مولعاً بالحكي بالتلفون، يمشي في الأزقة وقد وضع سماعة وهمية على أذنه، ويتحدث، ويصرخ في وجه الرجل الوهمي الموجود على الطرف الثاني من الخط، حتى لقبوه أبو سماعة، واختصروها "أبو سمعو"، وقرروا أنه مجنون، أو: مؤجر الطابق الفوقاني.
ولكن أبو سمعو لم يكن مجنوناً، بل مهووساً بالهواتف، والدليل أنه تخرج من الجامعة بشهادة عليا في هندسة الاتصالات، وبمجموع جيد جداً، وانتسب إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وعينوه مديراً لدائرة المواصلات السلكية واللاسلكية.. وقد فشل في عمله، بسبب ولعه بالهواتف، فكان يمضي وقت الدوام بالحكي، والثرثرة، وإذا دخل عليه مواطن، يشكو له أن الموظفين عرقلوا عمله، يرحب به، ويجلسه ريثما ينهي مكالمة هاتفية، وبعد زمن طويل ينتهي، ويقول له: خير؟ إحكي لي أشو صاير معك؟
وبمجرد ما يقول المواطن (وأ)، يرن أحد أجهزة الهاتف، فيقول أبو سمعو: (عن إذنك لحظة)، ويحكي مع المتصل ربع ساعة أخرى، ويتكرر السيناريو، حتى يضجر المواطن، وينسل ويخرج متخلياً عن الشكوى التي أتى من أجلها، دون أن ينتبه أبو سمعو لخروجه.
وكان عندنا، في الوقت نفسه، رجل متنفذ، معروف بلقب "أبو كفاح". إذا سألتني: هل هو ضابط مخابرات؟ أقول لك: لا، ولكنه أقوى وأخطر من ضابط المخابرات. هل هو عضو فرع الحزب؟ لا والله، ولكن أبو كفاح يُلَعِّب أمين الفرع والأعضاء على أصابعه. له علاقات في الشام وطرطوس والقرداحة، ولا أعرف ما إذا كانت له علاقة ببعض ضباط القصر الجمهوري..
"أبو كفاح" عنده سيارة حديثة، موديل سنتها، دفع رباعي، فول أوبشن، عندما يأتي لزيارة فرع الحزب، أو أي فرع مخابرات، يبتعد الحراس والعساكر من طريقه، ويضربون له تحيات، ويستمرون بفتح الأبواب أمامه حتى يصل إلى باحة الفرع، دون أن يجرؤ أحد على سؤاله عما بداخل سيارته، أو يحاول أن يفتشها، وهذا يحصل بمعرفة رئيس الفرع، ورضاه، بل بتوجيه منه، لأن أبو كفاح من عظام رقبة النظام المخابراتي الموجود في إدلب، وفي الشام، وداحش يده في أفواههم لآخرها (أي يدفع لهم رشاوي كثيرة).
رد عليه أبو سمعو: أبداً.. أنا ما وعدتكم خلال أسبوعين، أنا قلت خلال شهر، اسأل معلمك (أبو اليد المكسورة)، أكيد بيتذكر
ومرة، يا سيدي، كان أبو كفاح راجعاً من سهرة في جبل الأربعين، وعلى الأغلب كان شارباً بضعة أقداح من الويسكي، ولم يكن مرافقوه معه.. وصل بيته، وأراد أن يكرج سيارته أمام باب البناية، فوجد شاباً يكرج دراجته النارية مكان سيارته. الشاب لا يعرف أن هذا المكان مخصص لسيارة أبي كفاح، ولا يعرف مَن يكون أبو كفاح أصلاً..
قال له أبو كفاح باستعلاء: تعال لهون ولاك. هادا الميتور ما عاد بدي أشوفه هون. يا الله انقلع.
الشاب احمرت عينه، وقال له: وإذا ما انقلعت؟
أبو كفاح رفع يده وهوى بها على وجه الشاب، لكنها لم تصل، لأنه الشاب أمسكها، وفتلها حتى صار أبو كفاح يصيح ويولول، وعندما طلع الجيران ليروا ماذا يجري، لف الشاب رأسه بالحطاطة، وشغل دراجته وهرب..
ذهب أبو كفاح إلى عيادة طبيبه الخاص، والطبيب جَبَّر يده برباط ضاغط لونه أبيض، وأعلمه أن الرباط يجب أن يبقى لمدة شهر كامل.
بعد يومين من هذه الحادثة ذهب أبو كفاح ومعه مرافقه الشخصي خالد إلى مكتب مدير المواصلات السلكية واللاسلكية "أبو سمعو".
كان أبو كفاح قد حصل من المدير العام للمواصلات السلكية واللاسلكية بدمشق على استثناء بتركيب خط هاتفي لمزرعته الجديدة على طريق قرية "عين شيب"، وكان يتوقع أن يستقبله أبو سمعو بما يليق برجل متنفذ ومعروف مثله.. ولكن أبو سمعو لم يعرفه، وارتكب نفس الأخطاء التي كان يرتكبها مع المواطنين العاديين.. فبعدما سلم على أبو كفاح ومرافقه خالد، بدأت تأتيه مكالمات هاتفية، وهو يرد عليها، ويأخذ راحته في الكلام، كالعادة، وأبو كفاح تحلى بالكثير من الصبر حتى فرغ أبو سمعو من مكالماته وسأله: ما المطلوب؟
فقدم له المرافق ورقة الاستثناء من المدير العام.
وباعتبار أن "أبو سمعو" مدير فاشل، لم يبال بالاستثناء، واستدعى المدير الفني، وسأله عن إمكانية تمديد الخط المذكور إلى مزرعة أبي كفاح، فقال المدير الفني إن الشبكة واصلة إلى مكان يبعد ألف متر عن المزرعة، وإذا أردنا أن نمدد له خطاً، يجب أن نشتري ألف متر شريط من السوق، لأنها غير متوفرة حالياً في مستودع المديرية.
قال أبو سمعو مخاطباً أبا كفاح: والله يا أخونا (المفروض أن يقول له: يا رفيق طبعاً) حالياً لا يوجد أشرطة.. اصبر علينا شي شهر وبعدها نصل خطك..
وفي هذه اللحظة رن هاتفه، فرفع السماعة وصار يحكي، وكأن أبو كفاح غير موجود.. فغضب أبو كفاح وخرج دون أن يودعه، وأبو سمعو لم يكترث لغضبه وخروجه.
ومما زاد في الطين بلة أن "أبو كفاح" استدعى مرافقه خالداً، بعد أسبوعين من هذه الزيارة، وقال له حرفياً: روح شوف هالحمار مدير المواصلات السلكية واللاسلكية، واسأله إذا كانت مديريتُه اشترت أشرطة هاتف منشان خط المزرعة.
والأحلى أن المرافق خالد ذهب إلى مكتب أبو سمعو، وذَكَّرُه بالموضوع.. وفي زحمة المكالمات الهاتفية التي كان أبو سمعو يرد عليها، غاب اسم أبو كفاح عن ذاكرته.
قال خالد: أستاذ، أنت وعدتنا بتمديد الخط خلال هالفترة..
رد عليه أبو سمعو: أبداً.. أنا ما وعدتكم خلال أسبوعين، أنا قلت خلال شهر، اسأل معلمك (أبو اليد المكسورة)، أكيد بيتذكر.
خاتمة: اكتسب أبو كفاح، بعد هذه الحادثة، لقب "أبو اليد المكسورة"، وصارت سيرته على ألسنة المسؤولين في الحزب والمخابرات، ويقال إن هذه الحكاية تسربت إلى دمشق، وأحدهم حكاها لحافظ الأسد فضحك، وهو قلما يضحك، وصار أبو كفاح، كلما دخل لزيارة مسؤول كبير يسأله بتهكم مضمر: بشرني عنك أبو كفاح، إن شاء الله إيدك المكسورة طابت؟.