نار الفقر.. والربيع العربي

19 يناير 2015
+ الخط -
"لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط، لا أريد إلا أن أعمل"‏. ‎هذا ما قاله محمد ‏البوعزيزي، بائع الخُضار التونسي المُحبط، بعد أن قامت شرطية بتوجيه صفعة إليه ‏على الملأ، وأعقبتها بمصادرة عربته. فمنذ التضحية بالنفس من قبل البوعزيزي كان ‏الربيع العربي يدور إلى حد كبير في فلك نار الفقر. ولعل كلماته الأخيرة لوالدته، ‏قبل إشعال نفسه والمنطقة، تقف شاهدة على ما شعر به من قهر وهو في وطنه وبين ‏أهله: "مسافر يا أمي، سامحيني، ما يفيد ملام. ضايع في طريق ما هو بإيديا. لومي على ‏الزمان ما تلومي عليّ. رايح من غير رجوع. ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد ‏الناس". 
ثورة شعبية عارمة انطلقت في تونس من عربة بائع خضار مُتجوَّل عاطل من العمل‎.‎‏ ‏وعند هذه اللحظة بالذات، بدأ ملايين من المسحوقين والمهمشين والعاطلين من العمل ‏في العالم العربي يعبّرون عن آفاقهم الاقتصادية الكئيبة التي أخذت شكل احتجاجات ‏عارمة، أدت إلى تساقط الأنظمة. لكن استمرار الاضطرابات لفترة أطول من المتوقع، أدى إلى ‏تواصل الخلاف حول توصيف الحالة التي تمر بها المنطقة، وأصبح التشكيك تجاه ‏الربيع العربي أكثر انتشارا.
بنظرة سريعة إلى قائمة ‏الدول ذات الناتج المحلي الإجمالي أقل من عشرة آلاف دولار للفرد الواحد، نجد خمساً من ‏أصل عشر دول (مصر، العراق، سورية، السودان، واليمن) شهدت صراعاً داخلياً كبيراً أو ‏حرباً أهلية خلال السنوات الثلاث الماضية.
في تونس، البلد الذي يفتخر في كونه أنجز التحوُّل الديمقراطي الأكثر نجاحاً، فإن ‏صوت البوعزيزي ما زال حاضراً، ذلك أن كثيراً ما يُعبِّر سياسيون، وبشكل علني، عن ‏أن الحد من الفقر هو في صلب أولوياتهم. وبالمثل في مصر، فإن الفقر بات مؤشر ‏الأداء الرئيسي لتقييم أداء السلطة.
والأهم من ذلك، فإن الفقر اليوم يُشكِّل عاملاً أساسياً في النضال الإقليمي الأوسع نطاقاً ‏ضد التطرُّف. إذ لا يمكن فهم مكاسب الدولة الإسلامية في شرق سورية وغرب العراق ‏خارج سياق خيبة أمل سكان محليين مع واقعهم المادي المرير. فليس من المستغرب ‏بأن معقل "الدولة الإسلامية" القوي في سورية يقع في محافظة الرقة، تلك المحافظة الأكثر ‏فقراً في البلاد والتي ضربها جفاف شديد في فترة ما قبل الحرب.
في العراق، اتخذت العلاقة بين الفقر والتطرُّف شكلها الوثيق عندما تحالفت القبائل ‏السُنِّية، المحرومة مادياً، في محافظة الأنبار مع "الدولة الإسلامية"، لإبعاد سلطة بغداد ‏المركزية في أقرب وقت، نتيجة تعرضهم للتهميش والإقصاء على مدى سنوات طويلة. ‏وبالمثل في الأردن، فإن دعم "الدولة الإسلامية" يزدهر في المدن الريفية الفقيرة ‏والمُهملة، مثل مدينة معان، حيث يبلغ معدل البطالة فيها نسبة تعتبر الأعلى بين المدن ‏الأردنية وبواقع لا يقل عن 28%.
في شبه جزيرة سيناء في مصر، والقرى اليمنية النائية، لا يزال الفقر يُغذّي الراديكالية ‏بين الجماعات الجهادية. أما مساعي الحكومات الجديدة في هذه الدول، فهي تنصب بالاستمرار في نهج ‏التسلُّح، في حين تبقى مبادرات التنمية في اتجاه مجتمعاتها البدوية ‏الفقيرة، مصدر قلق ثانوياً.‏
(خبير اقتصادي أردني)
المساهمون