ملابس الاحتلال المستعملة تكسو غزة المحاصرة

10 مايو 2014
الحصار أجبرهم على ارتداء ملابس المحتلين /سيدخطيب/getty
+ الخط -

 لم يجد فقراء قطاع غزّة سوى الملابس المستعملة المستوردة من الاحتلال الإسرائيلي ودول الغرب، لكي تحميهم من حرّ الصيف وبرد الشتاء، بعد أن زادت وطأة الأوضاع الاقتصادية في ظلّ حصار مطبق عليهم من العدو والحبيب.

"لاكوست، بولو، زارا، ديدورا، توم، كروكر، رالف لورين، أديداس، نايك"، كل هذه الماركات العالمية من الملابس المستعملة، استطاعت الدخول إلى غزة عبر ما يعرف بــ"سوق البالة"، بسبب حالات الفقر وتفشي البطالة، وبالتالي عدم القدرة على شراء الملابس الجديدة.

ولجأ الفلسطينيون إلى "البالة"، في ظل استمرار حصار الاحتلال الإسرائيلي ومصر وإصرارهم على إغلاق المعابر، مما يؤدي إلى مزيد من تأزّم الموقف للغزّيين.

وتخضع غزة، لحصار تفرضه إسرائيل منذ عام 2006 بعد سيطرة حكومة حماس على القطاع، يشمل منع وتقنين إدخال البضائع والاحتياجات الأساسية للفلسطينيين.

كما تغلق مصر معبر رفح البري، المنفذ الوحيد لغزة على العالم الخارجي، بشكل شبه كامل، منذ إطاحة انقلاب الجيش بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، في 3 يوليو/تموز الماضي.

سوق فراس

ويعتبر "سوق فراس" الذي يعود إنشاؤه إلى العهد المصري، والذي ازدهر في الستينيات وما مازال مستمراً حتى الآن، هو السوق الأشهر في غزة للبضائع المستعملة، يزوره الغزّيون من كافة مناطق القطاع لشراء ما بات يعرف بـ"ملابس البالة". 

تقول "أم حازم" وهي أرملة منذ عشرين عاماً: "لا أعرف مصدر هذه الملابس بالتحديد، ولا أهتم لذلك، فما يدفعني للقدوم إلى "البالة" هو ضيق الحال، فأنا أمّ لثلاثة شباب تجاوزوا سن العشرين، وثلاث بنات واحدة منهن متزوجة، وأبنائي جميعاً لا يعملون، وواحد منهم حاصل على شهادة جامعية إلا أنه لم يحظَ بفرصة عمل تمكنه من الإنفاق على أبنائه، لذا أضطر لشراء الملابس المستعملة".

الشاب محمد النجار دفعته حالة الفقر إلى التردد على سوق البالة لشراء ملابس له ولأبنائه، يقول النجار: "كنت أخجل في البداية من شراء هذه الملابس، لكن جودتها وتدني أسعارها ودخلي المحدود جداً جعلني زبوناً دائماً"، فسعر قميص جديد له أو لأبنائه سيكلفه "عشرة أضعاف المستعمَل".

وبمقدور الشخص أن يقتني قميصاً بنحو دولار واحد، وبنطال جينز بدولارين، في حين يفوق ثمن القميص الجديد 20 دولاراً، ويصل ثمن بنطال الجينز إلى أكثر من 30 دولاراً.

وبدورها، تبدي المواطنة الأربعينية أمّ محمد، وهي والدة لـ"12" فرداً، استياءها من الوضع الاقتصادي الصعب الذي يضطرها لشراء المستعمَل.

وتشير إلى أنها تُفضّل دفع الرسوم والمستحقات الجامعية لأبنائها الأربع على شراء ملابس الصيف الجديدة للعائلة.

وتعبر "أم محمد" عن رضاها عن مستوى جودة بضائع البالة التي تحمل ماركة أوروبية لا مثيل لها في الأسواق العادية، وتميزها بأسعارها المناسبة لجميع الطبقات، على حدّ وصفها.

وأشارت أم محمد بيدها اليُمنى متعجبة، بينما كانت تحمل بيدها اليسرى كيسين مليئين بالملابس، قائلة: "إن سعر قطعة واحدة من الأسواق الجاهزة أعلى من سعر كسوة الموسم كاملة من سوق البالة لجميع أفراد عائلتي".

تراجع الاقتصاد

ويرتبط إقبال الغزّيين على سوق البالة بتردي الأوضاع الاقتصادية، وتفشي البطالة والفقر، نتيجة فرض إسرائيل حصارها على القطاع لما يقارب ثماني سنوات، إضافة إلى تأخير صرف رواتب الموظفين نتيجة الأزمات التي تعاني منها حكومة حماس، ناهيك عن ارتفاع أسعار الملابس الصيفية الجديدة في الأسواق المحلية.

وترتفع معدلات البطالة والفقر في قطاع غزة، وفق وزارة الاقتصاد التابعة لحكومة حماس، إلى ما يزيد على 39%.

وتمرّ الحكومة في غزة، والتي تديرها حركة حماس، بأزمة مالية خانقة، تسببت للشهر السابع على التوالي بتأخر صرف رواتب موظفيها، البالغ عددهم 42 ألف موظف، بفاتورة شهرية تبلغ حوالي 37 مليون دولار، وفق بيانات لوزارة المال.

واشتدت الضائقة الاقتصادية التي تتعرض لها حكومة غزة بعد اشتداد الحصار الإسرائيلي على القطاع، والذي تزامن مع هدم الجيش المصري للأنفاق الحدودية مع غزة منذ 10 أشهر.

الماركات العالمية

ويبدو أن حال "أم محمد" لا يشابه حال تلك السيدة الأنيقة التي بدا على مظهرها الترف، ولكنها أيضاً كانت تتفحص ملابس "البالة" وتقلّبها، لكن الدافع لديها مختلف تماماً، فهي لم تحضر إلى المكان بحثاً عما هو أرخص، بل أرادت من خلال ملابس البالة أن تتميز في ملابسها، وترتدي "الماركات العالمية" التي يشحّ وجودها في الملابس المستوردة.

تقول السيدة التي رفضت الإفصاح عن اسمها: "أحضر صباح كل ثلاثاء لأنتقي ما يحلو لي من الملابس التي أتألق أنا وأبنائي بها، ولا أجد من يلبس مثلها في غزة، رغم أنني في بعض الأحيان أدفع أكثر من مائة شيكل مقابل قميص من "ماركة" في المحال التجارية التي تبيع الماركات العالمية بأسعار باهظة".

وما يزيد من حماسها لشراء هذه الملابس هو إعجاب صديقاتها ومن حولها بها، إلا أن كبرياءها يمنعها من إخبارهم بحقيقتها، "فما أن سألني أحدهم من أين اشتريتها أجبت بأنها من دول الخارج.."، مؤكدة أنها لن تمتنع عن شرائها في يوم من الأيام.

وتقول (آلاء النادي) 27 عاماً "أنا أتوجه إلى سوق البالة لأسباب أهمّها النوعية الجيدة للملابس التي تتواجد في البالة، فهي أجنبية الصنع وتحمل ماركات عالمية، وتتميز عن الصناعة المحلية والصينية والتركية التي غزت الأسواق"، مضيفة "أن الملابس الأجنبية تبقى محتفظة بجودتها، مقارنة بالملابس المحلية التي تتلف بسرعة". 

ولا ترى الطالبة الجامعية، تهاني مهنا، مشكلة في ارتداء الملابس المستعملة رغم قِدمها، مبينة أن قدومها إلى السوق ليس بدافع عدم قدرتها شراء ملابس جديدة فقط، ولكن لعدم رضاها عن جودة الملابس الجديدة التي تملأ الأسواق، مقارنة مع جودة ملابس البالة.

وعلى خلاف السنوات الماضية التي عرفت فيها غزة "ملابس البالة" التي كانت تباع فقط في سوق "فراس" الشعبي، انتشرت محلات في شتى أرجاء القطاع، حتى أن بعض التجار لجأوا إلى افتتاح محلات بمساحات كبيرة لبيع هذه الملابس، التي بالعادة تكون قد استوردت بأثمان بخسة من دول غربية، استخدمها سكانها من قبل.

تجار محظوظون

ويقول صاحب محلّ ملابس، بسام الشحري لـ"العربي الجديد" إن الملابس العالمية المستعملة، يتم استيرادها من أماكن خاصة من دول أوروبية ومن داخل إسرائيل.

ويضيف أن "محله يقدم جميع أنواع الملابس النسائية والرجالية، وهي أفضل من الملابس الجديدة، والآن كل المواطنين يتعاملون بشكل طبيعي، ومفهوم الحرج من المستعمَل تغيّر".

واعتبر الشحري أن تجارة "البالة" مهنة "حظوظ"، "لأننا نشتريها بالوزن دون أن نراها، وبعد ذلك نفرزها ونبعد التالف منها، ومن ثم نقوم بكيّها وبيعها". 

وأضاف أنه يشتري تلك الملابس من إسرائيل بالطنّ، قائلاً "الطن الواحد بـ 6000 شيكل (1600دولار) لكن دائماً نجد ثلث الكمية فقط صالحة للبيع".

وتابع: "إن بيع البالة مصدر للكثير من العاملين، وعند إغلاق المعابر من قبل الاحتلال تتجمد حركة السوق، وبالتالي مهنتنا مرهونة بفتح وإغلاق المعابر".

ويقول (أحمد العكا) 21 عاماً، وهو طالب جامعي يعمل في السوق في أوقات فراغه، ليؤمن مصروف جيبه: "إن الزبائن يمثلون جميع طبقات المجتمع، فتجد الموظفين، والتجار والعمال والأطباء"، وأضاف أنه عند وصول البضائع الجيدة يتصل بزبائنه المميزين ليكونوا أول من يختار "اللقط" حسب قوله.

وبحسب بعض باعة البالة، "يعمد أتباع الديانة اليهودية في عيد «بيسح» (الفصح اليهودي)، في شهر أبريل/نيسان من كل عام، إلى استخدام أوانٍ جديدة والتخلص من القديمة، وتجديد أثاث المنزل وكل ذلك كان يُستغنى عنه برميه، قبل اكتشاف قطاع غزة كسوق يدرّ الكثير من المال".

ولا تقتصر أسواق البالة على الملابس المستعملة فقط، فالأدوات الكهربائية وخصوصاً الثلاجات والغسالات التي يتم جلبها من داخل إسرائيل تجد هي الأخرى رواجاً كبيرا،ً ويطلق عليها اسم (مخراز) أي المستعمَلة القديمة.

ويعتبر المواطن ياسر النمروطي أن هذه الثلاجات "أجود بكثير من الثلاجات الصينية والمصرية " وعن سبب ذلك "كل الصناعات الإسرائيلية عالية الجودة واشتريت ثلاجة (مخراز) من 15 سنة وما أحلاها"، ثم ضحك! وعن سرّ ضحكته أوضح قائلاً "ابن عمي تزوج حديثاً واشترى ثلاجة صينية، خدمته سنة وتعطّلت".

 

دلالات
المساهمون