يرفع عدد كبير من شركات المحاسبة المصرية، التي تقدم استشارات ضريبية لرجال الأعمال والأفراد، هذه الأيام، شعار "السكة شمال"، بحسب ما يؤكد حمدي محمود (محاسب قانوني)، وهو ما يعني سلوك الطرق الملتوية للتهرب من الضرائب، إذ تعكف هذه الشركات، في مثل هذه الفترة من نهاية كل عام، بدءاً من شهر ديسمبر/كانون الأول، وحتى نهاية شهر أبريل/ نيسان (الوقت المخصص للتقدم بالإقرارات الضريبة إلى مصلحة الضرائب)، على ترتيب الأوراق ومحاولات التهرب أو التجنب الضريبي، ويتم ذلك عن طريق ثغرات في قانون الضرائب.
يقول حمدي محمود، إن طرق التهرب من الضرائب كثيرة، وأصغر مكتب محاسبة يستطيع فعل ذلك، ومصلحة الضرائب تعرف ذلك، ولكن "كله بالقانون"، وهو ما أكده إيهاب ناشد استشاري الضرائب في محافظة البحر الأحمر، والذي اصطحبنا في جولة للتعرف إلى بعض طرق التهرب الضريبي الخاصة بقطاع السياحة في مدينة الغردقة التابعة لمحافظة البحر الأحمر، شرقي مصر.
جولة في طرق التهرب الضريبي
عند زيارتك محلاً لبيع المعروضات السياحية يسمى "البازار" في مدينة الغردقة، تكتشف أنه يبيع للعميل من دون فاتورة رسمية، وهو ما يجعله يتفلت من ضرائب المبيعات المفروضة عليه بكل سهولة، يشرح ناشد أن "البازار السياحي" ينبغي عليه دفع الضرائب في حال بلغت مبيعاته السنوية ما يزيد على مليون جنيه (130 ألف دولار)، ولكن بسبب غياب الفواتير الرسمية للمبيعات، يقوم صاحب "البازار" بتقديم إقرار يفيد بأن مبيعاته أقل من ذلك خلال العام، وبالتالي لا تحصل الدولة على حقوقها من الضرائب.
التهرب من ضرائب المبيعات لا يحدث في قطاع السياحة فقط، ولكن يظهر للعامة في مختلف المحافظات المصرية، وخاصة في الريف، حيث لا تتم عملية البيع والشراء عن طريق فواتير رسمية معتمدة من مصلحة الضرائب.
خلال الجولة وثق كاتب التحقيق قيام مطعم سياحي كبير، بتقديم فاتورة مذيلة بمبلغ 10% من قيمة المشتريات، نظير ضرائب مبيعات إضافة إلى نسبة 12% مقابل خدمة، ويفاجئنا ناشد أن بعض المطاعم التي تحصّل ضريبة المبيعات من المستهلك لكي تدفعها إلى الدولة، تقوم بإعادة تعديل الفواتير للحصول على بعض من هذه الضريبة، ولا تعطيها للدولة بأكملها، ولا تستطيع الدولة إثبات عكس ذلك، بسبب عدم وجود نظام إلكتروني مرتبط بمصلحة الضرائب يمنع تعديل ذلك أو التلاعب فيه.
يطالب الاقتصادي إيهاب ناشد، بتشديد الرقابة من خلال انتشار موظفي الضرائب والتفتيش المستمر، وإنشاء نظام إلكتروني قوي يحول بين المموّل والتهرب من الضرائب، ويشير ناشد إلى أن مأموريات الضرائب المختلفة، ليس بينها اتصال مباشر يسمح بمعرفة نشاط الممول في مختلف المحافظات، ويؤكد ناشد أن معظم القائمين على حكم مصر منذ عهود، يعدون من كبار رجال الأعمال، ومن مصلحتهم ألا يتم تطبيق نظام حاسم للضرائب يمنع التهرب الضريبي.
السائح يدفع في الخارج
في ظل الارتباك الاقتصادي والسياسي في مصر، يذهب بعض شركات السياحة المصرية، للتفاوض مع السائح لدفع قيمة مبالغ مستحقة عليه مرتبطة بمشترياته في مصر، وبالتالي بضرائب المبيعات، على أن تحصلها منه في الخارج، وبقيمة أقل من المبلغ المطلوب، "وهو نوع من أنواع التهرب من الضريبة، لأن هذه الأموال لم تدخل في حساباته بمصر، ولم يتم إثباتها، وبالتالي لن تفرض عليها ضرائب"، بحسب ناشد.
يضيف ناشد أن مصلحة الضرائب لا تستطيع إثبات شيء من ضرائب المبيعات للشركات السياحية إلا الإقامة الفندقية فقط، ولكن المبيعات الخاصة بالرحلات أو جلب السياح أو شراء البضائع والمنتجات أو الأطعمة لا يمكن إثباته إلا بإرادة صاحب الشركة، وكما ذكرنا فهو يتهرب من ضرائبها باستلامها في الخارج من السائح.
يعرف التهرب الضريبي قانونيا بأنه الجهود التي يبذلها الأفراد أو المؤسسات للتهرب من دفع الضرائب بطرق قانونية، ويتضمن التهرب الضريبي عادة إخفاء متعمداً للوضع الحقيقي للمكلف الضريبي تجاه السلطات الضريبية للحد من قيمة الضرائب، ويشمل على وجه الخصوص تقديم تقارير ضريبية غير صادقة، مثل التصريح عن أرباح أقل من القيمة الحقيقية لها.
الإنشاءات الفندقية مستمرة
طريقة أخرى تتبعها بعض شركات السياحة، حتى تتهرب من الضرائب العامة، إذ تتحايل على القانون عن طريق حساب ما يسمى "الإهلاك" من خلال توزيع ثمن بناء الوحدات الفندقية على مدة قدرها 10 سنوات، حتى يستعيد رأس مال المشروع مرة أخرى، ومع حساب المصروفات الخاصة بالشركة لكل عام ونسبة "الإهلاك" الباهظة، يكون غير مكلف بدفع الضرائب العامة، وبعد انتهاء مدة الإهلاك تقوم الشركة بعمل إنشاءات جديدة أو تجديد الفنادق بحيث تتحايل مرة أخرى على دفع الضريبة العامة، ولكنها لا تستطيع التهرب من ضريبة المبيعات إلا في الحالات التي سبق ذكرها في بداية التحقيق.
عمال بلا عقود
من أهم طرق التهرب الضريبي، التهرب من ضريبة الدخل المقررة على الأفراد، فالدولة لا تسيطر إلا على موظفي الجهاز الإداري للدولة، وعددهم نحو ستة ملايين موظف، إذ تستقطع منهم الضريبة من خلال مرتبهم الشهري، بحسب ما يؤكد محمد موسى، الباحث الاقتصادي في مجال الضرائب، ويضيف موسى أن السوق المصرية تحوي ملايين العمال الذين يشتغلون في الأعمال الحرة والشركات الخاصة، وقليل جدا من الشركات تلتزم بنظام التعينات والتأمينات على موظفيها، ما يحافظ على حقوقهم في العمل، وعلى حقوق الدولة من الضرائب على الدخل.
ويشير إيهاب ناشد، إلى أن قانون العمل ضعيف جدا، وهش يمكن الالتفاف عليه، وكثير من الشركات لا تلتزم بالقانون، لأن مصلحة الضرائب لا تحتسب التأمينات التي تدفعها على الموظفين، من المصروفات الخاصة بالشركة، وبالتالي تتهرب الشركات من دفع التأمينات، ومن ثم لا يخضع العمال لدفع ضريبة كسب العمل، وبسبب انتشار البطالة فإن العامل يقبل العمل بهذا الشكل رغم ضياع حقوقه المادية.
كارثة الاقتصاد الموازي
بسبب البيروقراطية الحكومية والفساد الإداري، نشأت فئة تعمل بعيدا عن أعين الدولة، ولا تخضع لقانون الضرائب، صنعت هذه الفئة ما يسمى الاقتصاد الموازي أو غير الرسمي، وحسب البنك الدولي، فإن الاقتصاد غير الرسمي في مصر ارتفع حجمه في 2013 في مجال الصناعة إلى 5% ومجال الخدمات إلى 15% بينما مجال المقاولات إلى 8%، بينما ارتفع حجم العمالة التي تنتمي إلى هذا القطاع غير الرسمي في العام نفسه إلى 45% كما أكدت مصادر اقتصادية لـ"العربي الجديد".
في دراسة للاقتصادي الشهير هيرناندو دي سوتو، مؤسس معهد الحرية والديموقراطية في البيرو، يقدر حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر بنحو 395 مليار دولار، بينما يشير اتحاد الصناعات المصرية في دراسة له إلى أن حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر يقدر بنحو تريليون جنيه مصري (131 مليار دولار أميركي)، يتضمن هذا الاقتصاد في مجال الصناعة فقط ما يقرب من 40 ألف مصنع يمارس نشاطه من دون ترخيص، (تدعى مصانع "بير السلم").
ويؤكد الاقتصادي إيهاب ناشد، في تصريحات إلى "العربي الجديد" أن هذه الفئة غير الرسمية ظهرت بقوة خلال شراء شهادات استثمار قناة السويس إذ تم جمع ما يقرب من 28 مليار جنيه من خارج البنوك لشراء الشهادات، ويضيف "يعني هذا أن هذه الأموال جاءت من هذه السوق غير الرسمية أو بالعامية المصرية "تحت البلاطة"، ويشير إلى أنه في عرف الاقتصاديين، يمثل هذا الرقم ما لا يزيد عن 10% فقط من الرقم الحقيقي في هذه السوق الموازية، ما يعني أنها تقدر بنحو 300 مليار جنيه".
ورغم أن حجم الاقتصاد الموازي غير مؤكد ومتباين، إلا أن الرقم غير قليل، وعدم ضمه إلى الاقتصاد الرسمي، يكلف الدولة أموالا باهظة مهدرة، سواء في التهرب الضريبي أو إغراق السوق المصرية بمنتجات زهيدة الثمن تضر بالتصنيع الرسمي، بحسب محمد موسى الباحث الاقتصادي.
150 مليار جنيه إهدار ضريبي
تقدر دراسات اقتصادية أن عمليات التهرب الضريبي بمختلف أنواعها تحرم الخزانة المصرية العامة من مبالغ تصل إلى نحو 150 مليار جنيه مصري (20 مليار دولار أميركي)، في الوقت الذي تعاني الخزانة عجزا شديدا في الموازنة العامة، يقدر بنحو 240 مليار جنيه مصري (31 مليار دولار أميركي) حسبما يؤكد الاقتصادي إيهاب ناشد، وهو ما يؤكده الدكتور مصطفى عبد القادر، رئيس مصلحة الضرائب المصرية، مشيرا إلى أن حصيلة الضرائب سنويا تصل إلى 400 مليار جنيه مصري (52 مليار دولار أميركي)، ويضيف في تصريحات صحافية أن 35% من حصيلة الضرائب مفقودة في عمليات تهريب كبيرة بشكل رسمي وغير رسمي.
ويؤكد رئيس مصلحة الضرائب أن السيطرة على التهرب الضريبي تحتاج إلى وجود نظام معلوماتي قوي بالإضافة إلى التوثيق الإلكتروني، للسيطرة على عملية التهرب.
الديمقراطية هي الحل
يتّفق الاقتصادي إيهاب ناشد، مع الرأي السابق، في أن حل أزمة التهرب الضريبي في مصر يحتاج إلى تطبيق نظام إلكتروني يتيح للممولين أن تكون تعاملاتهم جميعها من خلال البنوك ومنع تطبيق رسوم على المعاملات من خلال البنوك، ما يتيح لمصلحة الضرائب متابعة المبيعات من خلال هذا النظام ما يمنع التهرب الضريبي، ويوضح ناشد أن تطبيق الضريبة المضافة على المبيعات، كما يحدث في معظم دول العالم من أهم الطرق للحصول على ضريبة المبيعات بسهولة، ويرى رئيس مصلحة الضرائب أن قانون القيمة المضافة مسؤولية الحكومة وهو متروك لها، وليس المصلحة.
أما محمد موسى الباحث في مجال الضرائب، فيؤكد أن الديمقراطية السياسية من أفضل الطرق لزيادة حصيلة الضرائب، لأن ثقة المواطن أو الممول بأن النظام الحاكم وسياسته الاقتصادية تتسم بالرشد، هو ما سيدفعه إلى الالتزام بالضرائب لدعم الحكومة وزيادة ميزانيتها.
ويؤكد موسى أن زيادة الوعي ونشر الثقافة الضريبية، بالإضافة إلى تشريعات رادعة للمتهرب من دفع الضرائب، ستكون مهمة للحد من هذه الظاهرة.
تعديلات ضريبية جديدة
أجرت الحكومة المصرية تعديلات على قانون الضرائب قبيل مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي الأخير من أجل تحفيز الاستثمار وتشجيع القطاع الاقتصادي غير الرسمي على الانضمام للقطاع الرسمي، وتضمنت التعديلات تخفيض وتوحيد الحد الأقصى لسعر الضريبة على الدخل ليصل إلى 22.5% بالنسبة للأفراد والشركات على حد سواء (كان الحد الأقصى لسعر الضريبة قبل التعديل 25%) في شريحة واحدة بالنسبة للضرائب على الشركات، وفي أربعة شرائح بالنسبة للضرائب على الأفراد.
وتضمنت التعديلات إلغاء الضريبة الاستثنائية على الثروة التي أُقِرّت في بداية العام المالي أثناء تولي الرئيس المؤقت عدلي منصور خلال الفترة الانتقالية، والمعروفة إعلاميا باسم "ضريبة الأغنياء"، وكانت تطبق بنسبة 5% على الدخول التي تتخطى مليون جنيه، ولمدة ثلاث سنوات، بما يصل بالحد الأقصى للضريبة إلى 30%.