لم يكن الحادي عشر من فبراير/شباط 2011 يوماً عادياً في مسيرة ثورة الشعب المصري ضد نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، ولم يكن اليوم الأخير المكلل لأحداث هذه الثورة بـ"تنحي مبارك"، كما تفضّل أجهزة الدولة ودوائر النظام الحالي الادعاء دائماً، بل كان في حقيقته اليوم الأول لاندلاع شرارة الثورة المضادة التي قادها بنجاح المجلس الأعلى للقوات المسلحة، متلاعباً بأحلام وآمال الثوار.
وقد كان واضحاً منذ نزول الجيش إلى شوارع وميادين الثورة عقب انهيار جهاز الشرطة وإخلاء الأقسام مساء يوم جمعة الغضب في 28 يناير/كانون الثاني 2011 ثم فتح السجون في الساعات التالية، أن خلافاً ما دبّ في أوصال النظام على تولي زمام الأمور بعد انهيار دائرة جمال مبارك التي كانت تحكم وتأمر وتنهى منذ العام 2004 على الأقل، وهي الدائرة التي كان يسيطر عليها رجال الأعمال والوزراء "النيوليبراليون" وأعضاء لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، مدعومين بعلاقات وطيدة بالشرطة.
ووجد مبارك نفسه مضطراً للتضحية بهذه الدائرة عشية جمعة الغضب وبعدها مباشرة، فكان قراره بإقالة الحكومة ووزير الداخلية حبيب العادلي وإزاحة قيادات الحزب الوطني وإحالة قيادات حزبية بارزة للنيابة العامة للتحقيق معها في قضايا فساد، ثم أتبع ذلك بتشكيل لجنة للتعديلات الدستورية على رأس أعمالها تعديل المادة التي كان في حكم المؤكد أن يستغلها نجله جمال للنفاذ إلى سدة الحكم.
وأدت هذه الأحداث إلى نقل السلطة الفعلية في نظام مبارك إلى دائرتين جديدتين، الأولى هي الدائرة الاستخبارية التي يقودها اللواء عمر سليمان بخبرته السياسية الطويلة وثقله الإقليمي خصوصاً على مستوى الملف الفلسطيني الإسرائيلي، والثانية هي الدائرة العسكرية التي خرج منها مبارك نفسه، لكنه فضّل أن يسلبها فرصة خلافته في الحكم بعد إبعاد منافسه محمد عبدالحليم أبوغزالة من وزارة الدفاع ثم إسناد قيادة الجيش بعد حرب الخليج للواء حسين طنطاوي قائد الحرس الجمهوري الذي يفتقر إلى الشعبية والطموح.
وانحصرت المنافسة في آخر أيام مبارك بين سليمان وطنطاوي، وشعر الأول بأن مبارك "حرقه" عن قصد أو من دون قصد، فقد كان قرار تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية محاولة من مبارك لكسب مزيد من الوقت في السلطة، وتخويله فرصة أخيرة لإنقاذ النظام، غير أن ما حدث هو أن سليمان وجد نفسه هدفاً لمحاولة اغتيال غامضة قبل يومين من تنحي مبارك، فأثّر هذا على معنوياته ورضخ على ما يبدو للأمر الواقع وهو أن الدائرة العسكرية استردت السلطة الفعلية بعد إزالة عوائق مدنية مثل جمال مبارك ومجموعته، وشرطية كحبيب العادلي وأجهزته التي كان المصريون يشعرون أنها أقوى من الجيش، وأخيراً الاستخبارات بعد "حرق" ورقة عمر سليمان.
اقرأ أيضاً: 25 يناير: 5 سنوات لا تكفي لقتل الثورة
لم يكن طنطاوي حتى تلك اللحظة صاحب طموح شخصي، بل كان يتحرك بدافع الحفاظ على الجيش وإعادته إلى سدة الحكم وصدارة السلطة السياسية، فقد ضاق ذرعاً، وهو النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء لأكثر من 10 سنوات، من ممارسات رجال الأعمال والمستثمرين الذين تحركهم أطماعهم الشخصية، وكانت الأروقة الحكومية تتداول قصصاً عن صدامات متكررة بين طنطاوي وجمال مبارك، وبينه وبين أحمد عز وأحمد نظيف وحاتم الجبلي ويوسف بطرس غالي وآخرين.
فطنطاوي كان يشعر بأن هؤلاء يريدون خطف مصر إلى منطقة أخرى غير الدولة العسكرية، أحياناً توصف بالنيوليبرالية، أو الاستثمارية، وهي في كل الأحوال منطقة تشكّل خطراً على نفوذ الجيش داخل البلاد، وطالما نشبت معارك مكتومة تدخَّل حسني مبارك لحسم بعضها بنفسه، تدور حول بيع الأراضي واستغلالها من دون موافقة الجيش، وإدخال منافسين عالميين لبعض الأنشطة التي يحتكرها الجيش بدعوى تنشيط الاستثمار، بالإضافة إلى السبب الأهم وهو أن دائرة جمال مبارك كانت تعدّ العدة لتصعيده خليفة لوالده، وهو ما لم يكن طنطاوي يقبله.
كان الحل الوحيد أمام طنطاوي في الأسبوع الأخير لمبارك هو الضغط عليه أكثر لتسليم الحكم إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مقابل تعهدات بسلامته وأمنه وأمن أبنائه وحمايتهم من المساءلة القانونية أو السياسية، ورضخ مبارك لهذا الضغط وكلّف نائبه عمر سليمان بإعلان نهاية حكمه، ونهاية دور سليمان السياسي أيضاً، بتنحي مبارك وتكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد.
كان هذا التكليف الصادر من مسؤول تنحى فعلياً عن الحكم، هو بداية طريق ترسيخ النظام العسكري في مصر، وعلى الرغم من كونه التفافاً على مطالب الثوار، إلا أن عدم جاهزية شخصية توافقية بديلة معبّرة عن ميدان التحرير، أدى إلى ترحيب أوسع التيارات مشاركة كـ"الإخوان المسلمين" والأحزاب التقليدية، بإسناد مهمة إدارة الفترة الانتقالية للجيش دون سواه، ومن دون الدخول في تفاصيل سياسية قد تثير خلافات كتشكيل مجلس رئاسي، على الرغم من أن هذا الأمر كان أحد المطالب الشعبية في ذلك الوقت لضمان تمثيل الثوار في معادلة الحكم.
وبمجرد تولي المجلس العسكري السلطة أظهر نواياه للانفراد بالحكم، فأصدر إعلانات دستورية تمنحه سلطات استثنائية ولا تتضمن برنامجاً محدداً زمنياً للانتقال السياسي، لكن المحطة الأولى في طريقه للانقلاب على الثورة كانت بنجاحه في شق الصف الثوري باستفتاء 19 مارس/آذار 2011 وإدخال البلاد في معركة مفتعلة حول تعديل الدستور أو وضع آخر جديد.
وعلى الرغم من أن إجراء استفتاء على تعديلات دستورية عاجلة للاختيار بين بدء المرحلة الانتقالية بانتخاب البرلمان أم رئيس الجمهورية كان أمراً ضرورياً وفق الظروف، إلا أن المجلس العسكري وأذرعه الإعلامية والمتشددين، حوّلوا الاستحقاق السياسي إلى اختبار لقياس قوة الحشد لدى كل طرف سياسي، وأكسبوا الاستفتاء صبغة دينية بعد تكرار الحديث عن تعديل المادة الثانية الخاصة بالشريعة الإسلامية، على الرغم من عدم حدوث ذلك فعلياً.
وكانت المحطة الثانية إدخال المجلس العسكري الأحزاب والتيارات المختلفة في معركة مفتعلة أخرى هي "الدستور أولاً أم الرئيس أولاً" لتحديد أسبقية الاستحقاقات الانتخابية، مستغلاً رغبة كل تيار في الحصول على أكبر حصة ممكنة في الانتخابات البرلمانية، ورغبة التيارات النظامية والكلاسيكية في إقصاء شباب الثورة عن المشهد وإضعاف الأحزاب الجديدة التي وُلدت في أعقاب الثورة.
واستغرقت هذه المحطة نحو 8 أشهر كاملة، كان المجلس العسكري فيها يتلاعب بالتيارات والأحزاب بما في ذلك "الإخوان المسلمين"، وصولاً إلى محطة ثالثة خطيرة هي أن وضع نظاماً انتخابياً غير دستوري ومخالفاً للأعراف الانتخابية والمبادئ القضائية بشأن المساواة بين المستقلين والحزبيين، فأصدر قانوناً بإجراء الانتخابات بنظام الثلثين للحزبيين بالقوائم والثلث الفردي للمستقلين والحزبيين معاً، من دون تحصينه بإعلان دستوري، مما سمح بعد ذلك بصدور حكم حل مجلس الشعب من المحكمة الدستورية في 14 يونيو/حزيران 2012 لوأد التجربة البرلمانية الناشئة التي كانت ستنازع الدائرة العسكرية في السلطة.
اقرأ أيضاً: في ذكرى 25 يناير: رجال مبارك ومؤسساته يتصدرون المشهد