في وقت شبه متزامن، فتح بيتا عزاء الأسبوع الماضي، في قريتي زواتا، غرب نابلس، شمال الضفة الغربية، وقباطية، جنوب جنين، شمال الضفة، بعد وفاة عاملين، الأول العامل فارس أبو عمشة، الذي سقط من أعلى بناية قيد الإنشاء في نابلس، والثاني العامل محمد علاونة، إثر ملاحقة شرطة الاحتلال الإسرائيلي له أثناء محاولته الدخول إلى الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 للعمل هناك.
حادثان كشفا عن ظروف بالغة الصعوبة تعيشها الطبقة العاملة الفلسطينية، وسلطا الضوء على ضعف، بل انعدام السلامة المهنية في منشآت العمل الفلسطينية، وما بات يطلق عليه "لقمة العيش المغمسة بالدم"، في إشارة إلى وفاة أعداد متزايدة من العمال الفلسطينيين، إما على معابر الاحتلال أو خلال مطاردتهم من شرطته وهم يحاولون الدخول للعمل في الداخل المحتل عام 1948 بطرق تطلق عليها سلطات الاحتلال "غير قانونية" نظرا لعدم حصولهم على تصاريح تؤهلهم لذلك.
في هذا الوقت، كشف أحدث تقرير إحصائي عن ارتفاع معدل البطالة في فلسطين لعام 2018، مسجلاً 31 في المائة من بين الأفراد المشاركين في القوى العاملة مقارنة بنحو 28 في المائة في العام الذي سبقه، وارتفع العدد من 377 ألف عاطل من العمل عام 2017 إلى 426 ألف عاطل العام الماضي.
وأوضح الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في تقرير له حول الواقع العمالي في فلسطين، أن معدل البطالة بلغ حوالي 18 في المائة في الضفة الغربية، و52 في المائة في قطاع غزة.
قتل علني
حادثة استشهاد العامل علاونة بقيت غامضة نوعا ما، حتى كشف رفيق رحلته الأخيرة عبد مناصرة، عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، تفاصيل ما جرى، وقال إنه "أثناء نومنا آمنين مطمئنين باغتتنا قوة من الشرطة الإسرائيلية في تمام الساعة الرابعة من صباح 23 من إبريل/نيسان الماضي، أنا والشهيد (محمد علاونة)، ولدى وصول شرطة الاحتلال إلينا حاولنا الهرب ولكن لم نستطع أن نمشي أكثر من خمسة أمتار".
وتابع: "لدى وصولهم إلينا بدأ عناصر وأفراد الشرطة الإسرائيلية بالاعتداء علينا بالضرب المبرح، وبدأوا بضربي بعدما قاموا بتقييدي، وضرب الشهيد على الوجه والصدر، ثم قيدونا معا، ونتيجة للضرب كان المرحوم يعاني من آلام وأوجاع، الأمر الذي أدى إلى شعوره بضيق نفس قوي وسقط على الأرض، فوقعنا معا لأننا مقيدان".
وتابع "لم يكتف الاحتلال بذلك، بل حاول أحد أفراد الشرطة ضرب الشهيد مرة أخرى ونحن مقيدان، وعندما لاحظ أفراد الشرطة بأن المرحوم بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة، قدموا إسعافات أولية له، ولكنه كان قد فارق الحياة، وبعدها أحضروا سيارة إسعاف وحاولوا إنعاشه، دون فائدة".
في التحقيق، حاول عنصر الشرطة الإسرائيلية الذي ضرب الشهيد علاونة أن يثبت أنه لم يكن هو المعتدي، وسأل مناصرة عن ذلك، فرد عليه "أنت ضربته وحاولت ضربي".
المدرس المتقاعد
أما العامل فارس أبو عمشة، وهو في الثانية والستين من عمره، فقد تقاعد من مهنة التدريس بعد نحو 35 عاما في السلك التعليمي، واتجه للعمل في البناء.
وفي صبيحة 21 إبريل/ نيسان الماضي، وخلال وجوده على ارتفاع أكثر من 6 طبقات في ورشة قيد الإنشاء في نابلس سقط وارتطم جسمه بالأرض، ففارق الحياة على الفور.
عائلته تعيش حالة من الصدمة حتى اليوم، خاصة أن شقيقه يرقد في العناية المركزة بعد تعرضه لإصابة عمل سببت له جراحاً خطيرة. وقال أحد أقاربه لـ"العربي الجديد": "إن مالك ورشة العمل التي وقع فيها الحادث مؤمن وجاء على رأس وفد لبيت العزاء، وأبدى استعداده لتقديم كل ما يلزم من حقوق، رحم الله عمي، ما بتغني عنه كل الملايين". ولم يستطع إكمال الحديث معنا نظرا لانشغاله بحالة قريبه الثاني.
ضحايا السماسرة
ويشير الأمين العام لاتحاد نقابات عمال فلسطين شاهر سعد، إلى أن ثلاثين عاملا توفوا منذ بداية العام الجاري حتى آخر إبريل/نيسان 2019، منهم 26 في الداخل المحتل "إسرائيل"، وأربعة في الضفة الغربية.
وفي حديث مع "العربي الجديد"، حذر سعد مما سماه "سوق العمالة السوداء"، وهم شريحة العمال الذين لم يحصلوا على تصاريح الدخول، والذين يخضعون للابتزاز من "السماسرة"، في ظروف عمل غير لائقة وتفتقر للحد الأدنى من شروط الصحة والسلامة المهنية.
وأشار تقرير لمركز الدراسات الإسرائيلية "مدار" إلى أنه "رغم اعتراف الجهات الرسمية بأن الإهمال هو السبب الرئيس لحوادث العمل هذه، إلا أنه لم يتم فتح أي تحقيق جنائي في أعقاب الحوادث بشبهة إهمال أنظمة العمل".
وهذا ما أكده شاهر سعد، لافتاً إلى أن "عشرات آلاف الفلسطينيين يخاطرون بحياتهم من أجل العمل في الداخل المحتل، ويسلكون طرقًا وعرة وينامون في العراء وبين الصخور في محاولة للاختباء من الشرطة الإسرائيلية التي تلاحقهم في كل مكان، وفي حال نجح العامل في الوصول لغايته، يُجبر على العمل في ظروف أشبه بالعبودية، من حيث طبيعة العمل ووقته، ويبقى العامل تحت تأثير الابتزاز من المقاول الذي قد يكون عربيًا أو إسرائيليًا، ويرضى بأقل القليل خشية من اكتشاف أمره أو التبليغ عنه، وبالتالي قد يتعرض للاعتقال والترحيل، دون أن يحصل على أجرته".
جهل وابتزاز
والأدهى هي عمليات النصب التي تكون بمبالغ ضخمة حينما يستنكف رب العمل عن دفع الأجرة، ونظرًا لكون العامل غير قانوني لا يستطيع التوجه لنقابات العمال الإسرائيلية أو وزارة العمل لتقديم شكوى بحقه.
وعن دور النقابات الفلسطينية في الدفاع عن تلك الشريحة، أوضح سعد أنهم لا يملكون معلومات حول العمال الذين يعملون في إسرائيل دون تصاريح، "لكن حال تقدم أحدهم بشكوى حول تعرضه لإصابة أو عملية نصب مالي من رب العمل أو المقاول، نسعى قدر الإمكان لمساعدته من خلال المستشارين القانونيين، والأمر ليس سهلاً، فهو لا يملك أية وثيقة تثبت أنه عمل لدى الجهة المشتكى عليها".
لكن الأخطر بنظر سعد هو "جهل العمال بحقوقهم، فقد يتنازلون عن حقهم بسهولة استسلامًا للمعيقات الإسرائيلية، أو الإغراءات بإعادتهم للعمل حال إسقاط قضاياهم، وتحت الحاجة والفقر قد يوافقون على ذلك، ويضيع حقهم وتعبهم هباءً منثورًا".
قلة المفتشين
أما محليًا، فحوادث العمل المميتة مستمرة، خاصة في ورش البناء والمحاجر والمصانع الكيميائية والصناعات الخطرة، في ظل عوامل عدة، أبرزها: ضعف وسائل الصحة والسلامة المهنية بسبب عدم توفيرها من أرباب العمل، مثل اللباس المناسب، والكمامات والقفازات والأدوات المساعدة في تسهيل مهمة العامل، وكذلك إهمال كبير من شريحة العمال بذلك، والمخاطرة بحياتهم دونما اكتراث بما قد يحل بهم، وخاصة عمال ورش البناء الذين يقفون على حواف البنايات ويستخدمون الرافعات (الونش) في الصعود والنزول، وغيرها.
لكن الأهم هو قلة أعداد المفتشين لدى وزارة العمل، فحسب الوزارة فإن لديها 40 مفتشا، في حين أن الحاجة لـ180 مفتشا، وتبين أن أية منشأة يمكن زيارتها مرة واحدة كل ثلاثة أعوام، وهذا كفيل بجعل التجاوزات عصية على الاجتثاث، وكذلك عدم قدرة المفتشين على الوصول إلى كل منشآت العمل، خاصة في المناطق الواقعة خارج سيطرة السلطة الفلسطينية، حيث تقع غالبية التجاوزات.