29 يناير.. يوم غضب للدم والشهداء

28 يناير 2015
قضينا أغلب النهار على صوت الموت (الأناضول)
+ الخط -

كان واضحا من مطلع اليوم أنه سيحمل الكثير، فبعد دقائق معدودة من عودة شبكات التلفون للعمل بشكل جزئي، بدأت الأخبار تتلاحق. كان أولها خبر استشهاد وجنازة، مصطفى الصاوي، ولم يكن آخرها المعلومات عن اقتحام السجون.

كانت الساعة قد قاربت العاشرة من صباح السبت، التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، بعد يوم وليلة مليئين بالأحداث الساخنة والمفصلية، حين أخبرني محمد القصاص أن أحد الشباب من إخوان منطقة العجوزة واسمه مصطفى الصاوي، قد استشهد في مظاهرات الأمس على كوبري قصر النيل، وأن جنازته ستكون عقب صلاة الظهر في العجوزة، واتفقنا أن نحشد كل من يمكنه الوصول إلى هناك حتى نخرج بالجنازة.

كنت قد غادرت للتو منزل أحد المسؤولين في جماعة الإخوان في مدينة 6 أكتوبر، والذي سألته عن تقدير إخواننا للموقف ومآلات ما حدث خلال جمعة الغضب، فأخبرني أن الصورة ليست واضحة لدى أحد بعد، وأنه سيذهب للقاء الإخوة في مكتب الإرشاد بعد قليل، لكنه يرى أن ما بدأ يبدو أنه لن يتوقف.

اتصال القصاص كان هو التواصل الأول بيني وبينه منذ فقدت أثره في اشتباكات ميدان الجيزة يوم 28، وكان أول اتصال أتلقاه بعد عودة تلفوني للعمل.

فكرة الجنازة كانت تحمل رسالة قوية، فليس مقبولا اليوم أن يقتل النظام شباب مصر ويُدفنوا في صمت، وهي في الوقت نفسه فرصة لاستعادة تحريك الشارع مرة أخرى، بعد محاولات إجهاض جمعة الغضب، التي اختتمها البلطجية بحركة واسعة من النهب والسرقات.

اتصلنا بكل من استطعنا الوصول إليه لندعوه للحضور إلى العجوزة والمشاركة في الجنازة، اتصلنا بمجموعات من إخوان أكتوبر والجيزة، وتواصل القصاص وباقي الشباب مع النشطاء من الحركات السياسية.

حين وصلت إلى العجوزة كان الشباب من مجموعتنا في الإخوان وبعض شباب الحركات السياسية قد بدأوا في الوصول. تواصلنا مع مسؤولي الإخوان في العجوزة وأخبرناهم عن رغبتنا في أن تكون جنازة الشهيد سيرا على الأقدام، وأن نمر بها من ميدان التحرير ونصلي عليه هناك ثم نذهب إلى المقابر.. لكنهم رفضوا الفكرة تخوفا من حدوث شيء يهين الجثمان، وأخبرونا أن أهل الشهيد خائفون من ذلك، فحاولنا إقناعهم أن هذا حق الشهيد أن نكرم جنازته، ولا يصح أن تمضي هكذا.

تحدثنا مع بعض الإخوان المسؤولين في محافظة الجيزة، وأحد أعضاء مجلس شورى الجماعة في المحافظة، حتى وصلنا لاتفاق أخيرا على أن تسير الجنازة محمولة على الأكتاف، وأن نمر بالميدان ونصلي عليه مرة أخرى في مدخل الميدان من الخارج، ثم نكمل طريقنا إلى مقابر السيدة عائشة.

اتفقنا على أن أقوم بتوجيه خط سير المظاهرة – الجنازة، بالتنسيق مع إخوان العجوزة والنشطاء، ولم تكن هناك مكبرات صوت متاحة، وحاولت أنا وزميلنا، عبد الرحمن هريدي، تدبير صوتيات بالإيجار أو بالشراء، إلا أن كل المحلات رفضت الإيجار مخافة الضياع أو التلف، ولا يوجد مكان نشتري منه في هذا الوقت الضيق، وذهب يبحث عن ميجافون أو أي شيء يساعدنا. ثم جهزنا بعض اللافتات التي يمكن رفعها خلال الجنازة.

صلينا الجنازة في مسجد الشيخ الحصري بالعجوزة، وتحركنا في شوارع المهندسين حتى خرجنا إلى شارع البطل أحمد عبد العزيز، ومشاعر الناس ملتهبة والحزن على الشهيد الفقيد، فقد كان محبوبا لدى كل من يعرفونه، شابا من خيرة الشباب ومن أهل القرآن والصلاح كما شهد كل من احتك به.

كانت جنازة الشهيد، مصطفى الصاوي، عاملا مهما لا يمكن إغفاله في إحياء الشارع مرة أخرى، فقد كان تأثيرها على الناس عظيما، خاصة أنها ليست مظاهرة كمظاهرات الأمس، لكنها جنازة لشاب مصري في مقتبل العمر تم قتله غيلة برصاصات أحدثت أكثر من 28 ثقبا بجسده، من شرطة النظام الفاسد الذي يريد أن يبقي سطوته على مقاليد بلاد نهبها وباعها بالقطعة لرجال أعماله والمنتفعين من أصدقائه، فكان تأثيرها في الناس في الشارع مميزا، ثم إن أثرها على الميدان أيضا كان كبيرا، لأنها اجتذبت أعدادا كبيرة للميدان وأعطته دفقة حياة.

حين وصلنا إلى قسم شرطة الدقي وجدنا هناك قوة من الشرطة تقف قريبا من القسم في مشهد استفز المشيعين للجنازة، حيث خرج أحد ضباط القسم في شارع التحرير، وحاول التعامل مع المسيرة وهو يقول للناس: (ادخل من هنا ووسع الطريق)، فحاولوا الاشتباك معهم، وجرى محمد القصاص ومعه مجموعة من الشباب ليحول بين الضباط والمشيعين غير أن أحد الضباط قام برفع سلاحه ووجهه إلى القصاص وقام بتذخيره، فتصدى له القصاص قائلا له: اضرب، وهجم عليه بعض الشباب وجاء الكثير من ضباط الشرطة واحتقن الموقف بشدة وكنا على وشك اشتباك عام ومهاجمة القسم بمن فيه، ووقف عدد من الشباب يحاولون تهدئة الموقف، وجرى العديد من الإخوة ليحجزوا بين الطرفين.

وأكملت الجنازة -المظاهرة طريقها إلى الميدان. عند نهاية كوبري قصر النيل، حاول إخوان العجوزة أن يتوجهوا بالجنازة يمينا ليسلكوا طريق الكورنيش إلى المقابر ويتحاشوا المرور بالميدان، فوقعت أنا والأخ أحمد نزيلي نتناقش معهم لحظات لم تنتظر الجنازة فيها، واتجه المشيعون بشكل تلقائي إلى ميدان التحرير الذي استقبل الجنازة بهتاف هادر.

في الميدان، كانت المسيرة تتحرك بدفع ذاتي، وقفنا بها على مدخل شارع محمد محمود، الذي كان دائما نقطة ساخنة، وكانت الشرطة تغلقه من منتصفه ودبابات الجيش في أوله، وحاولنا توجيه الجنازة إلى شارع الفلكي أو طلعت حرب، حتى لا يقع احتكاك بالداخلية في الجنازة، وحتى نفي بوعدنا لأسرة الشهيد. وقفت أنا وصديقي أحمد نزيلي أمام خشبة الجثمان نحاول دفعها بعيدا عن شارع محمد محمود دون فائدة، حتى أنني تعلقت بالخشبة، لكن اندفاع الناس خلفها لم يدع مجالا للتراجع، خاصة أن دبابات الجيش التي كانت تسد مدخل الشارع قد عدلت وضعها لتتيح مساحة تسمح بدخول الجنازة!!

اندفعت الجنازة بحشودها إلى داخل شارع محمد محمود وكانت الشرطة تسده من منتصفه بحشود كثيفة من الأمن المركزي، وحين وصلنا إلى تقاطع شارع الفلكي مع شارع محمد محمود قريبا من مكتبة الجامعة الأميركية، تقدمت الجنازة جريا أنا وأحمد نزيلي ونحن ننادي على الضباط، الذين بدأوا يطلقون علينا النار ونخبرهم أنها جنازة وأننا فقط نريد المرور بها ولا نهاجمهم، لكن للأسف راحوا يطلقون النار علينا مباشرة، وحتى استطعنا الخروج بالجنازة إلى شارع الفلكي المتفرع من محمد محمود، كنت قد شهدت سقوط قرابة الـ 7 شهداء من المشيعين وعدد كبير من المصابين، وأصبت إصابة طفيفة من لطف الله بي، حيث خدشت خرطوشة وجهي قريبا من عيني، ودخلت خرزات في قدمي.

انطلقت الجنازة نحو مقابر السيدة عائشة، وحين بحثت عن باقي زملائنا، اكتشفت أن صديقينا محمد القصاص وأحمد عبد الجواد محاصران في مسجد صغير داخل السوق الشعبي المغطى بمنطقة الفلكي، وأن هناك اشتباكات عنيفة بين الشرطة من جهة والأهالي والمتظاهرين من جهة أخرى، وأن الشرطة تمشط المنطقة وتطلق الرصاص الحي مباشرة على كل صوت أو شيء يتحرك.

كان القصاص وأحمد عبد الجواد يحملان الكاميرا ويحاولان تصوير ما يحدث حين اجتاحت قوات الأمن الشارع، الذي كانوا فيه، فلجأوا إلى مسجد صغير للاختباء. وحين اتصلنا بهما أخبرانا أن الشرطة تتجول في المكان وأن باب المسجد الذي يختبئون فيه مغلق لنصفه، وأنهم لا يستطيعون إغلاقه ليتواروا خلفه، لأن عناصر الشرطة إذا أحسوا بأية حركة يطلقون الرصاص مباشرة.

وظل شارع محمد محمود خلال هذا اليوم يخرج لنا الشهيد تلو الشهيد، فلا تمر 10 دقائق حتى يخرج الشباب حاملين جثمانا ويهتفون "لا إله إلا الله الشهيد حبيب الله".. في الوقت الذي يندفع فيه آخرون تجاه الشارع لمواجهة الشرطة دون تردد أو خوف.

قضينا أغلب النهار على صوت الموت، الذي يتجدد كل دقيقة بخروج جثمان شهيد أو مصاب أو وصول الاشتباكات لأطراف الميدان، هذه الاشباكات التي لم نستطع وقفها بمنع الشباب من مهاجمة الداخلية، ولا حسمها بتوجيه من في الميدان كلهم للمشاركة فيها حتى إسقاط الداخلية، فقد كانت قناعة الكثيرين من سكان الميدان الجدد أننا في ثورة سلمية يجب أن نحافظ على بياضها، وأننا معتصمون في الميدان وسندافع عنه، لكننا لن نهاجم شيئا خارجه، لكن عددا من الشباب كانوا يرون أن بقاء عصابة وزارة الداخلية متحصنين في مبناهم، خاصة بعد المذبحة التي نفذوها في جنازة الشهيد مصطفى الصاوي، يمثل أكبر تهديد لهذه الثورة، وساعد على ذلك وجود الكثيرين من أصحاب الثأر مع أجهزة الشرطة من أبناء الطبقات المطحونة الذين مارست الشرطة معهم على مدار عقود أقسى أنواع القهر والإذلال، هذه المعركة التي بدت فيها الكثير من نماذج البطولة، ولا أخجل هنا أن أسميها بطولة رغم إشفاقنا على هؤلاء الشباب الذين تحملوا عبء هذه المعركة وحدهم.

واستمرت معركة الداخلية الدائرة في شارع محمد محمود ومنطقة الفلكي وباب اللوق، لتكون نقطة محورية في مسار الأحداث. هذه المعركة التي كان يديرها العادلي وحسن عبد الرحمن بنفسيهما من داخل مقر وزارة الداخلية في لاظوغلي، وكان الطرف الأساسي فيها هم الأهالي، والمكتوون بنار الداخلية على مدار سنوات، والتي ظلت مشتعلة لمدة يومين حتى تدخلت قوات الجيش وقامت بمحاصرة مداخل الوزارة وإلقاء القبض على قيادات الداخلية بداخلها، بعد سقوط ما يقارب 43 شهيدا أغلبهم بالقنص المباشر، من فوق أسطح المباني أو إطلاق الرصاص مباشرة في الشوارع. وهي من الأهمية بالقدر الذي يستدعي التوثيق لها بشكل منفصل، ومحاولة الوصول لأكبر عدد من شهودها وشهدائها وتقصي تفاصيل ما دار فيها.


*مصر

المساهمون