فضّلت السلطات الجزائرية الصمت وعدم الردّ أو توضيح ملابسات تخص اتهامات وجهها متهمون لجهاز الدرك بممارسة التعذيب لانتزاع اعترافات منهم، برغم مطالبات كثيرة بفتح تحقيق في صدقية هذه الاتهامات وما إذا كانت الأجهزة الأمنية والضبطية القضائية، فعلياً كانت بصدد ارتكاب تجاوزات لتوجيه التحقيقات والقضايا في اتجاهات تخدم مجموعات في السلطة أو ضدها، على خلفية إبلاغ كمال شيخي، المعروف بالبوشي، والمتهم الرئيس في قضية توريد شحنة 701 كيلوغرام من الكوكايين في مايو/أيار 2018، لقاضي محكمة سيدي امحمد وسط العاصمة الجزائرية، حال عرض قضية فساد والحصول على امتيازات عقارية، أنه تعرض للتعنيف ومحاولة انتزاع اعترافات منه تورط نجل الرئيس تبون، وكشف المتهم لمهل جلال الدين عن تعرضه للتعذيب الشديد باستخدام أسلاك الكهرباء لإجباره على التوقيع على اعترافات لا تتضمن أقواله الحقيقية.
وازدهرت عمليات التعذيب لدى الأجهزة الأمنية في الجزائر في فترة الأزمة الأمنية في التسعينيات، إذ كانت يد الأجهزة مطلقة دون أية ضوابط وفي ظل فوضى أمنية وسياسية راح ضحية التعذيب عدد من الجزائريين، لكن هذه الممارسات بدأت تضيق شيئا شيئا مع تطبيق الجزائر لبرامج إصلاح مسّت العدالة والقوانين المتصلة بالتوقيف والاحتجاز وعمل الأجهزة الأمنية.
لكن ذلك لم يمنع حدوث بعض التجاوزات التي تثيرها الهيئات الحقوقية المحلية والدولية، بينها ما تعرض له الصحافي محمد تامالت الذي توفي في ظروف غامضة داخل السجن قبل ثلاث سنوات.
ويعتقد متابعون للشأن الأمني والقضائي في الجزائر، أنّ التصريحات التي تم الإدلاء بها للعموم في جلسة المحاكمة، بشأن وجود عمليات تعذيب وانتزاع اعترافات تحت التعذيب، يفترض أن تفتح نقاشا حول الموضوع وتحقيقا من قبل السلطات القضائية للتدقيق في الأمر، ومعرفة ما إذا كانت المخافر الجزائرية ما زالت تعرف مثل هذا النوع من التحقيقات، أم أنها مجرد تصريحات للمتهمين بقصد الإفلات من العقاب ولتغيير أقوالهم في ظروف مغايرة.
وفي السياق يؤكد الكاتب الصحافي المتخصص في الشؤون الأمنية والقضائية بوعلام غمراسة، لـ"العربي الجديد"، أنه "في الحقيقة تحيلنا هذه القضية إلى فترة الاقتتال بين قوات الأمن والإرهاب وقضية المختفين قسرياً الذين قتلوا تحت التعذيب، أعتقد أن تصريحات المتهمين ومحاميهم ضد الضبطية القضائية باب جديد من الخطورة ما يستوجب فتح تحقيق"، مضيفاً أن وضع القضاء في الجزائر في علاقته بالسلطة الأمنية والتنفيذية وهوامش استقلاليته لا يسمح له بفتح تحقيق، وقال "لو كان القضاء مستقلاً لأمر القاضي بإحضار الضباط الذين أجروا التحقيق مع المتهمين".
ويلفت غمراسة إلى أنه وبرغم طبيعة الاتهامات التي وجّهها المتهمون أمام القاضي لجهاز الدرك بممارسة التعذيب، وما ترتب عنها بتبرئة خالد تبون نجل الرئيس الجزائري، لإقرارهم أن الاعترافات السابقة بتورطه تمت تحت التعذيب بالكهرباء والضغط، فإن السلطات لم ترد، مؤكداً "ألاحظ أن قيادة الدرك لم يصدر عنها رد فعل على الاتهامات، وهذا قد يحيل إلى أن شبهة التعذيب قد تكون ثابتة ضدهم".
لكن التصريح بوجود عمليات تعذيب وعنف خلال التحقيقات، ليست جديدة بحسب ناشطين حقوقيين ومحامين، خاصة في قضايا المخدرات والإرهاب، إذ يعلن المتهمون في مثل هذه القضايا بتعرضهم لذلك، لكن المحامين والهيئات الحقوقية لا تجد سبيلاً لإثبات ذلك عمليا.
ويقول المحامي والناشط الحقوقي عبد الغني بادي لـ"العربي الجديد"، "في قضايا المتاجرة بالمخدرات يقول كل المتابعين إنهم تعرضوا للتعذيب، وفي قضايا الإرهاب كذلك يتحدث البعض عن هذا الأمر، في الحقيقة هناك من يقنعك بتعرضه للتعذيب وهناك من لا يفعل".
ويذهب المحامي نجيب بيطام في تصريحات صحافية تخص الموضوع الذي أثير عقب هذه المحاكمة، إلى أن المشكل الرئيسي في قضية التعذيب هو غياب الإثباتات والأدلة التي يمكن من خلالها ملاحقة المسؤولين الأمنيين للضبطية القضائية.
ويؤكد عضو منظمة الحقوقيين الجزائريين حسان إبراهيمي لـ"العربي الجديد"، أنه "خلال الفترة التي سبقت الحراك كان تعامل بعض الأجهزة النظامية مع النشطاء يتسم بصفة تصفية الحسابات أكثر منه لتطبيق القانون، مما يجعل تلك الفترة عرفت حالات تعنيف وتعسفات كثيرة ضد المشتبه فيهم خلال فترة الاحتجاز تحت النظر، بدليل وجود الضباط مسؤولي أجهزة إحلال القانون في السجن حالياً مثل المدير العام السابق للأمن الوطني والمدير الولائي للأمن الوطني ومدير فصيلة البحث والتحري للدرك الوطني"، ويضيف إبراهيمي الذي كان تعرض أحد موكليه لانتهاكات وتجاوزات وتعذيب قبيل الحراك الشعبي" للأسف الشديد كانت تلك الفترة أجهزة إحلال القانون وسيلة لتصفية الخصوم السياسيين والناشطين".
ويدين القانون الجزائري أية عمليات تعذيب أو تجاوزات في حق الموقوفين مهما كانت طبيعة القضايا المتصلة بهم، ويفرض على الضبطية القضائية عرض أي متهم أو مشتبه به بعد انتهاء التحقيقات مباشرة على طبيب يختاره المتهم، للتثبت من تعرضه لانتهاكات خلال التحقيقات أم لا، لكن أجهزة الأمن تعرض المتهمين على أطباء تختارهم لأسباب عديدة، ناهيك عن جهل المتهمين أو المشتبه بهم لحقوقهم هذه.
وفي الغالب تنكر السلطات الجزائرية وجود التعذيب في أقسام الأمن، وتعتبر حديث الحقوقيين عن ذلك من باب المبالغة، لكن منظمة العفو الدولية دانت في التقرير السنوي لعام 2019 "تعرض نشطاء للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة على أيدي قوات الأمن، وخاصة عن طريق ضربهم واحتجازهم رهن الحبس الانفرادي، ففي يناير/كانون الثاني 2019، قال الصحافي عدلان ملاح لمنظمة العفو الدولية إنه تعرَّض، عقب القبض عليه، للضرب والإيهام بالغرق على أيدي أفراد قوات الدرك، فضلاً عن وضع قطعة قماش مبللة بسائل مبيِّض في فمه، ولم تأمر السلطات بإجراء تحقيق فيما ادعاه من تعرضه للتعذيب، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تعرض ثلاثة من نشطاء "الحراك" المحتجزين، وهم شمس الدين إبراهيم لعلامي وسفيان باباسي ويونس رجال، للضرب في الحجز".