يوم شممت عطر زوسكيند

07 نوفمبر 2016
(إتيل عدنان)
+ الخط -

كثيرًا ما أَهملتُ حاسّة الشمّ وأثرها؛ لأنّي لم أكن أكثر وعيًا بها قطُّ، إلّا بعد قراءتي رواية باتريك زوسكيند "العطر"، ورّبما وجدتُ أن التطوّر والأدبيات الأنثروبولوجية والتحليل النفسي كذلك، يفسّرون حالة التقزّز والقرف التابوهي من الطمث والمرأة الحائض عمومًا، بأن الطمث هو ما كان يمتلك قدرة التأثير على الرجل البدائي تجاه الأنثى، حينما كانت الإثارة الشميّة هي الأهمّ والأولى، ولمّا استُبدلت هذه بالإثارة البصرية ضعفت أهميّة حاسّة الشمّ وتمّ الاستغناء عنها تقريبًا. وتابو الطمث إنّما ينجُمُ عن هذا الكبت العضوي كإجراءٍ مضادٍ للرجوع إلى حالة سابقة تمّ تجاوزها من التطوّر.. إلّا أن حاسّة الشم ما زال لها أثرٌ كبيرٌ في الحياة الجنسية، ولا أقصد كمثيرٍ جنسيٍ فقط بل كدافع جنسي أيضًا.

أذكر أنني حينما كنت أجوب عاصمة الجزائر كابن بطوطة عشيرتي، متنقلاً بين سكنات الإيجار، أقمت ذات مرّة في أحد الأحياء في مبنًى تقابله عمارة، في طابقها الأرضي كانت تقطن فتاة مراهقة مع أهلها، لم تكن تلك الفتاة ذات جمال أخّاذ يلاحظه المرء من أوّل نظرة، كما أنها لا تمتلك جسدًا عامرًا شهوانيًا، لم تكن تتغنّج، ولم نسمع أنّها منحت أحدهم شيئًا أو وعدته بذلك على الأقل، ومع ذلك ورغم غياب جميع الأسباب الموضوعية، اشتهى كثيرون تلك الفتاة، شيبًا وشبابًا. صرّح بعضهم بذلك علانية والبعض الآخر فضحته عيناه وزلّات لسانه.

حيّرني الأمر وقتها، إلا أنني فسّرت ذلك بأن الفتاة تمتلك طاقة جنسية شهوانية عنيفة، تكفل لها إثارة جميع ذكور النحل من حولها، ولم أفكر كثيرًا في الآلية التي تؤثّر بها هذه الطّاقة على الذكور حول الفتاة، إلا أنني أجدني اليوم أشك باشتغال تلك الآلية، كانت رائحة الفتاة ببساطة هي ما يُثير الرجال تجاهها، رائحتها الشهوانية المميّزة التي تتسلّل إلى أنوفهم غير مدركين هم أنفسهم ذلك.

إن التناقض بين نظريتي الأنثروبيولوجي وزوسكيند، يكمن في دورية الأمر أو استمراريته وثباته، فبالنسبة للتطوّر، كان تأثير الرائحة دوريًا، أي عندما تفرز الأنثى تلك الهرمونات أو الفيرمونات فيلبي الذكر النداء، ثم لا يوجد مبرّر بعد ذلك لمكوث الذكر بجانب الأنثى إلا عندما تطلبه في الدورة القادمة، ونلاحظ ذلك عند معظم الحيوانات، ومن ثم فإن النواة الأولى للأسرة تكوّنت عندما حلّت الإثارات البصرية الدائمة محل الإثارات الشميّة المتقطّعة والدورية، وبذلك صار الذكر يحتفظ بالأنثى معه على الدوام، إذ إن الإثارة صارت دائمة كذلك.

أما زوسكيند، فيرى تأثير الرائحة الجنسي أمراً ثابتاً وشخصياً، مثل هالة من الطاقة تحيط بالشخص وتؤثّر على من حوله، وبالطبع يمتلك كل شخصٍ هالةً مميّزةً عن الآخرين في قوّتها وعبقها وأثرها، وذلك قد يفسّر لنا حالة الفتاة أعلاه وحالات مشابهة.

واعتراف البشر بأثر حاسّة الشم وسعيهم للحؤول دون الرجوع إلى تلك المرحلة الشميّة، يظهر جليًا في السعي إلى طمس كل أثر للرائحة الشخصية حاليًا، من نظافة شخصية وحلق شعر المناطق الحسّاسة واستخدام مزيلات العرق والعطور.. ومع كل هذا نأمل أن نصل إلى تفسير بعض حالات الاشتهاء اللاموضوعية، والتكالب أحيانًا على أنثى بعينها لا تملك ما تمتلكه غيرها من مثيرات بصرية.

المساهمون