قبل أسبوعين كنت ومجموعة شبابية عربية على الضفة الشرقية لنهر الأردن. وصلتني على هاتفي غير الفلسطيني رسالة تقول: "هل تشم رائحة الياسمين، أهلا بك في فلسطين". رأيت جبال أريحا ورأيت فلسطين المحتلة على بعد مترين ورأيت خوف الجنود على الضفة الأخرى. غنّينا وبكينا ونحن ننظر لجبال فلسطين التى تقف كأنها الشموخ الأبدي.
تمر هذا العام على الشعب الفلسطيني ذكرى يوم الأرض وفيها تجديد للعهد ولوحدة الأرض وفيها وحدة غير مسبوقة بين الأجيال الشابة الفلسطينية وترابط علني بين الشباب الفلسطيني فى الشتات وغزة وهضبة فلسطين الوسطى (الضفة الغربية لنهر الأردن) وفلسطين الداخل. ربما هذه الوحدة غير المسبوقة عزّزتها مواقع التواصل الاجتماعي التى ربطت ابن غزة بابن حيفا وبنت يافا بابن جنين والقدس أو بنت يافا بابن رام الله وابن الناصرة ببنت نابلس.
عملياً تبقى السياسات العنصرية الإسرائيلية هى الفاصل الأكبر بين أفراد الشعب الفلسطيني والتى استمدت شرعيتها ليس فقط من احتلال الأرض والشعب فى العام 1948 ولكن أيضا من اتفاقية أوسلو والتى حاول الإسرائيلي من خلالها وبموافقة فلسطينية رسمية تقسيم الشعب الفلسطيني إلى عدة "شعوب" وإطلاق اسم "عرب إسرائيل" على فلسطينيّي الداخل المحتل الذين بقوا فى أرضهم بعد احتلال فلسطين التاريخية. وبعد أربعين عاماً من يوم الأرض وارتقاء شهداء سخنين وكفر كنا وعرابة والطيبة يبقى محور يوم الأرض هو ساحة الصراع الحقيقي بين الفلسطيني والمحتل.
الأرض كمحور للصراع
تبقى الأرض هى محور الصراع الفلسطيني-الصهيوني ليس فقط فى الضفة الفلسطينية ولكن أيضا فى الداخل المحتل. فبعد أربعين عاما من يوم الأرض والهبة الجماهيرية إثر مصادرة قوات الاحتلال الإسرائيليي 21 ألف دونم من أراضي عرّابة وسخنين ودير حنّا، تستمر سياسة الاحتلال الإسرائيلي فى سياسياتها التهويدية وكان آخر مشروع كبير هو مشروع برافر الذي أسقط شكليا ولكنه مستمر بشكل خفي.
بعد احتلال فلسطين وقيام "دولة إسرائيل"، صادرت "إسرائيل" ملايين المساحات من الأراضي فى الجليل الفلسطيني. كل ذلك من أجل تهويد الأرض الفلسطينية وتهجير الفلسطيني فى الداخل والسيطرة على الحيز المكاني ومحاولة تغيير الحيز الزماني من تاريخ وتراث وتقاليد وغيرها، وذلك عبر قوانين عنصرية مجحفة بحق الفلسطيني. وكانت الهبة الجماهيرية بداية لتوحد الشعب الفلسطيني فى الداخل وفى الأراضي المحتلة عام 1967 فكانت انطلاقة الهبة هي إعلان فشل الفصل بين الشعب الفلسطيني والأرض، وكانت هذه أول هبة جماهيرية موحدة للشعب الفلسطيني عنوانها الأرض.
يوم الأرض المستمر
إن يوم الأرض هو تجديد العهد والبيعة والتشبث بالأرض الفلسطينية كاملة والتذكير بأن الصراع ليس فقط على أراضي الجليل وإنما على كامل الأراضي الفلسطينية. فمنذ العام 1976 حتى اليوم، لم تتوقف مصادرات الأراضي الفلسطينية، ليس فى الضفة المحتلة فقط ولكن أيضا فى الداخل الفلسطيني والجليل والنقب وخصوصا القدس التى تحاول "إسرائيل" السيطرة بكل السبل على الحيز المكاني والحيز الزماني فيها وذلك عن طريق تطبيق التطهير العرقي وطرد سكانها الأصليين فى ظل تخاذل عربي وفلسطيني رسمي.
تُستمدُ خصوصية يوم الأرض من الصراع الديمغرافي وتمسّك الأجيال فى فلسطين الداخل بالحيز المكانى ومحاولة الحفاظ على الحيز الزماني فى ظل وجود كتلة ديمغرافية فلسطينية كبيرة فى الجليل. ففي حين يشكل الفلسطينيون % 20 من السكان يستحوذون على % 2 فقط من مساحة فلسطين التاريخية.
وبما أن الهبة الجماهيرية قبل أربعين عاما جاءت ردا على محاولات الاستيلاء على الأرض الفلسطينية بغرض إقامة مستوطنات إسرائيلية بين المدن الفلسطينية، ما زالت عملية مصادرة الأراضي الفلسطينية فى الضفة الفلسطينية والقدس والنقب مستمرة ليومنا هذا.
ما اختلف عن العام 1976 هو وجود كيان فلسطيني شبه مستقل أو تابع للاحتلال الاسرائيلي وهو السلطة الفلسطينية والتي حاولت "إسرائيل" إنشاءها لتكون مجرد أداة لإدارة الأراضي المحتلة عام 1967 ولأجل استفراد إسرائيل فى بقية الشعب الفلسطيني فى الداخل بشكل رسمي وتهويد الأرض.
يوم الأرض 2016 ونهاية أوسلو
بعد اتفاقية أوسلو، جاء تقسيم الشعب الفلسطيني إلى الداخل، ال 1967 والشتات ومنحت الامتيازات للبعض لكى يتواصلوا مكانيا مع الأرض الفلسطينية بعد أن وافقت القيادة الفلسطينية على التخلى عن % 78 من أراضي فلسطين وبالتالي منح إسرائيل الحق فى التهويد والسيطرة على ما تبقى من الأرض والاستفراد بجزء كبير من الشعب الفلسطيني وفصلهم عن مصيرهم المشترك مع بقية الشعب الفلسطيني.
فى المقابل، فشلت أوسلو والسلطة الفلسطينية فى وقف الاستيطان والتهويد وبناء الدولة بل أصبح الاستيطان أكثر والتهويد أكبر وأصبحت السلطة الفلسطينية مجرد عالة على الشعب الفلسطيني وأداة للإدارة المدنية الفلسطينية فمجرد محاولة الفلسطيني بناء مدينة أو مبنى أو حفر بئر يحتاج إلى تصريح من الإسرائيليين وخصوصاً من الجيش الإسرائيلي، فأصبح الارتباط بالمحتل ليس فقط احتياجياً وإنما سياسياً حيث تحاول بعض القيادات الفلسطينية جاهدة الحفاظ على ما تبقى من أوسلو وذلك من أجل الحفاظ على الامتيازات التى حقّقوها فى ظل كيان فلسطيني لا يستطيع رئيسه التنقل من بقعة أرض إلى أخرى بدون تصريح من مجندة إسرائيلية، على حسب قوله.
إذاً فشلت أوسلو في فصل الشعب الفلسطيني عن بعضه البعض، فبعد عشرين عاما على أوسلو أصبح الشعب الفلسطيني مرتبطا أكثر ببعضه البعض، ومرتبط أكثر بأرضه. وكانت رقصة حفيد خالد عيسى المولود فى السويد على أرض الناصرة رسالة واضحة مفادها أن ارتباط الفلسطيني بالأرض هو أبدي. وأن ما نجحت فيه أوسلو هو خلق كيان فلسطيني بديل للإدارة المدنية الإسرائيلية لإنجاز معاملات مدنية فى الضفة وغزة فقط وقد سقطت الكثير من الأحزاب الفلسطينية فى هذا الفخ، حماس وفتح مثال على ذلك.
إذاُ لم تُحقق أوسلو ما أرادته إسرائيل من فصل الشعب الفلسطيني عن بعضه البعض وتشتيته والاستفراد بجزء كبير منه وتهويد أرضه. وفشلت فى تحقيق دولة فلسطينية وإيجاد حل سلمي للفلسطينيين بحل الدولتين المتجاورتين. بقي الحل الأوحد وهو الدولة الواحدة على كل الأرض.
كل الأرض: الدولة الواحدة
فى ظل غياب حل الدولتين ومحاولات إسرائيل الكبيرة للفصل بين الشعب الفلسطيني فى كل مكان وفَشَلها فى ذلك ومحاولات السلطة الفلسطينية الفاشلة والعاجزة عن ايجاد حل لمواجهة الاستيطان الذي يسلب الأرض يوما بعد يوم بشكل كبير، وحيث أن الاحتلال الإسرائيلى يحاول السيطرة بشكل أكبر على الأرض فى النقب والجليل والقدس وتهويدها، لم يتبق إلا أن يلتئم الشعب الفلسطيني بالأرض، كل الأرض (27000 كيلو متر مربع) فى حل سياسي سلمي قائم على حل الدولة الواحدة حيث يعيش سكان البلاد الأصليين من الفلسطينيين مع المهاجرين اليهود.
لن تنفع وتجدي نفعا أي حلول قائمة على حل الدولتين فى فلسطين المحتلة. فتشبث الفلسطينيين بالأرض أكبر من اتفاق أوسلو ومحاولات فصل الشعب الفلسطيني عن أرضه التى هجّر منها. ولن تنفع كل محاولات إعطاء الحق لليهود وللدولة الإسرائيلية فى روايتها التاريخيه من خلال إقامة دولة فلسطينية تعيق مطالبة الفلسطيني فى الشتات بأرضه فى فلسطين المحتلة عام 1948.
ما أريد أن أقوله هنا هو أن ارتباطنا بأرض فلسطين أكبر من اتفاقيات ستجعل أبناءنا مطالبين بتصريح أو تأشيرة لزيارة حيفا ويافا والناصرة وبئر السبع كأنها دولة أخرى. وحتى الآن بالتصريح العسكري الإسرائيليى نبقى على شعور بأن هذه الأرض المسلوبة تعود لنا وهى ملكنا ولذلك نطالب بتصريح عسكرى لزيارتها وليس بتأشيرة كأنها دولة أخرى. فى وجود الدولة الواحدة، سنبقي على ارتباطنا بالأرض أولاً ومن ثم نوحد شعبنا كقوة ديمغرافية واحدة.
ويبقى يوم الأرض رمزاً من رموز الوحدة الفلسطينية ووحدته فى مواجهة المحتل ودليل على ارتباطه بالأرض الفلسطينية. ففي هذا اليوم، يجدد الفلسطيني فى السويد وسورية وفنزويلا وأستراليا ولبنان ومصر وجنوب إفريقيا ارتباطه بالأرض، كل الأرض. علينا مرة أخرى التفكير جيداُ بأن فلسطين هي كل الأرض وعنوان الصراع بمجمله وليست فقط الضفة الغربية وقطاع غزة.
من يمثل الشعب الفلسطيني هما ابن حيفا وبنت الناصرة اللذان يواجهان المحتل من الداخل ويحافظان على ارتباطهما بالأرض ويطالبان بأرضهما كلها بما فيها القدس والضفة وغزة. فشل أوسلو (الأرض مقابل السلام) يعني العودة إلى المربع الأول وهو المطالبة بكل الأرض ولكن بتجديد الخطاب إلى كل الأرض للشّعْبَين.
(باحث فلسطيني/ السويد)