يوسف زيدان للأردنيين: "حِراك إيه؟"

13 فبراير 2014
+ الخط -
ألعابٌ لغويّةٌ ونقلات بهلوانيّةٌ على حبال التّاريخ، أتقنها الباحث والرّوائيّ المصريّ يوسف زيدان، في عرضٍ له أمام جمهور أردنيّ. متقافزاً بين الأفكار والقصص الخارجة عن السياق، ليبرّر "سيولة" موقفِه "الثّقافيّ"من السّلطة العسكريّة في مصر.

بدا العرض، أو الندوة، التي استضافتها أخيراً "مؤسسة عبد الحميد شومان" في عمّان تحت اسم "أثر المثقّف: دور المثقّف العربيّ في ظلّ الوقائع المتسارعة في المنطقة"، غايةً في "خفّة الدّم" و"السلاسة" و"الإقناع"، خصوصاً أنّ زيدان يتمتّع بقدرةٍ فائقةٍ على تحويل أعتى فكرةٍ إلى مجرّد مزحةٍ ساخرة يستدرجُ بها الحاضرين إلى الضّحِك، مُخفّفاً من أثر السُّم الذي دسّه في العسل. فيستنكر صاحب "عزازيل" على الأردنيين حراكهم السياسيّ ونزولهم إلى الشّارع، متسائلاً: "حراك إيه اللي بتتكلّمو عنّه؟". مستذكراً قصّة للملك حسين قال فيها لأحد المواطنينٍ أثناء حديثهما: "وضّح لي أمرك يا سيدي". ويستنتج  مؤلّف "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" هنا أنّ "يا سيّدي" عبارة لا ينطق بها زعيم عربيّ، في امتداحٍ ضمني للملك الأردني الراحل، مبالغاً في مدلولات هذه الحادثة والتعبير الملكي "يا سيدي".

وفي هذا السياق لا يتردد زيدان في وصف رؤساء عرب راحلين عن مناصبهم وعن حياتهم، مثل حسني مبارك ومعمّر القذّافي وصدّام حسين، بالـ"جَهَلة". ولا بدّ هنا من فاصلِ تصفيقٍ طويلٍ يعبّر عن فرح الجمهور بهذه "الشّتيمة". ويتابعُ متحدّثاً عن مسؤوليتهم  في تدمير البنية الإبداعية في مجتمعاتهم، متجنّباً في المقابل الحديث عن مسؤولية عبد الفتّاح السيسي، ومكتفياً بالقول إنه ضدّ ترشّحه للرّئاسة.

ويواصل زيدان العرض بسرد بعض بطولاتِ صراعِه مع السّلطة، مُتجهِّم الملامح، ومفاخراً بتحدّيه الاستعراضيّ للرّئيس المصريّ المعزول محمّد مُرسي، حين قال له في مقابلة تلفزيونية، مخرجاً قلمه من جيبه: "أنا أملُك هذا، أنا أكتب، أنا أهمّ منك". وقد منح هذه العبارات حسَّاً دراميّاً يستدعي الصّمت من شدّة الذّهول والإعجاب.

ومن قبّعته السحريّة، راح زيدان يستخرجُ قصائدَ الشّاعر محمود درويش كأداةٍ يخدّر بها الحاضرين، مُتمايلين مع إيقاعاتِها الأخّاذة، ليمرّر لهم دور المثقّف عبر اتّكائه على نظريّة "أثر الفراشة". إذ يرى أنّ وظيفة المثقّف تنحصرُ في تطبيقها من خلال تطوير المجتمع "بشكلٍ هامس".

دهاءُ "السّاحرِ" لم يتوقّف هنا، بل استطاع زيدان بضربةٍ واحدة أن يُحيي الشّاعر المصريّ أمل دنقل ويقتله مرّة أخرى، متهكّماً على "فقر البُنية المعرفية" لدى دنقل، ليُثبتَ أنّه لم يحقّق "أثر الفراشة". ويستدلّ على ذلك بقصيدة "مقتل كُليب والوصايا العشر"، ساخراً من استحضار الشّاعر لقصّة "الزّير سالم"، واصفاً الأخير بـ"البغل". ليصاب الجمهور هنا مرّةً أخرى بنوبةٍ من الضَّحِك، دون أن ينتبهَ إلى يد "السّاحر" الأخرى وهي تُغافله وتُخفي اسم القصيدة المتداول: "لا تُصالح". هذا النّص الذي يُعدُّ أيقونةً، لدرجة أن كثيرين يستخدمونه في حياتهم اليوميّة، ولو أن زيدان ذكر اسم القصيدة المعروف، لردّد الحاضرون مقاطعها عن ظهر قلب.

وعلى الحبل الواصل بين قطبَيّ "المثقّف" و"السّلطة"، يتأرجحُ زيدان، نافياً ضرورة وجود صراع بينهما، وجاعلاً من بعض النّماذج التّاريخيّة عصاً يوازنُ عبرها سيْرَهُ على خيط الفكرة. فبيتُ المتنبّي الشّهير: "سيعلمُ الجَمعُ ممّن ضمَّ مجلسُنا.. بأنّني خيرُ من تسعى به قدَمُ"، كان دليلَه على "مقاومة" الشّاعر لسلطة الأمير سيف الدّولة الحمداني. ومدائح أبي الطيّب لوالي مصر، كافور الإخشيدي، كانت دليلَ زيدان على اتّساق المثقّف مع السّلطة.

وبين هذا وذاك، مُرتكزاً على أنصاف الحقائق، يسرد صاحب "ظلّ الأفعى" القصص بمعزلٍ عن سياقِها التّاريخيّ، ممّا يثير تساؤلاً: هل تقلّبات المتنبّي "السياسيّة" تلك هي النّموذج الأمثل لقياس علاقة المثقّف بالسّلطة؟ وهل  كانت "أقاصيص" زيدان وسيلته في الالتفاف على الشأن المصري الملتهب في علاقة المثقفين بالسلطة العسكرية؟

ويمعن الرّوائيّ المصريّ في السخرية، فيرى أنّ انهماك الدّارسين بثنائيّة "المثقّف والسّلطة" ما هو إلّا طرحٌ تقليديٌّ يهدفُ إلى صناعة الأبطال. إذ يرى أنّ المناكفة الدائمة للسّلطة ما هي إلّا "بطولات وهميّة يحبّذها الجمهور العربيّ لأنّها تُدغدغ  عاطفتَه".

الجمهور الذي ضحكَ وصفّق لهذا العرض، لم يطرح أسئلة تتحقق من الملابسات التاريخية كما أوردها الباحث الفَكِه، باستثناء سؤال واحد حاول أن يستفهم عن جدوى أعمال زيدان الروائية القادمة من التراث في ظلّ الواقع الحاليّ العربي. لكن المسؤول السابق في مكتبة الإسكندرية أحسن التملّص من السؤال بإجابة غائمة: "التّراث يتصل بالواقع، ويخدم تقدُّم المجتمعات".

المساهمون