يعدّ يوسف الصديق أحد أبرز المشتغلين في مجال العلوم الإسلامية، وتتميّز أبحاثه وكتاباته بنظرة معاصرة للقرآن الكريم، لا تعزله عن زمانه أو مكانه، فضلًا عن البحث في جوانبه اللغوية. كما تحاول قراءته بعيدًا من تعسّف الخطاب السائد. وليوسف الصديق ترجمات مهمّة إلى اللغة الفرنسية منها ترجمة معاني القرآن، والأحاديث النبوية ونهج البلاغة ورسائل ابن سينا.
* عند قراءة مؤلّفاتك ذات الطابع الجدلي والمثير لكثير من الإشكاليات، يتبادر إلى الذهن سؤال عمّا إذا كنت مؤمنًا أم ملحدًا أم مفكّرًا يسعى إلى ممارسة حقّه في تجاوز الفهم "السكوني" للدين بعيدًا من روحه، كما فعل علماء المسلمين الأوائل مثل الطبري والزمخشري وغيرهما؟
لطالما سُئلت عما يخصّ الإيمان، وأخيرًا وجه إليّ سؤالك نفسه، فأجبت أني لا أظن أن ثمة في هذه الدنيا، مفكّر ملحد. وأنا خلال أبحاثي الطويلة، لم أجد في فلسفة الإله والموت أفضل من فلسفة سبينوزا التي تقول بأن الله ليس في حاجة إلى التموقع. وكما جاء في النص القرآني "وسع كرسيّه السماوات والأرض"، هو الكل وله المواقع كلّها. وبالتالي فإن الله عزّ وجل، لا ترفعه السماوات والأرض باعتباره الإله المطلق، ولا يحدّه زمان ولا مكان كما هو معروفٌ في علم العقائد، باستثناء ما ورد لدى التيّار الحرفي المعروف بـ السلفية الحرفية.
وقد زرت بيت الله الحرام ثلاث مرات، وفي إحداها قرأتُ الفاتحة على قبر الرسول محمّد، وكانت تجربة عاطفية وروحانية ووجدانية، أثّرت في نفسي على نحو لا يوصف، إلا أنّه حزّ في نفسي وجود بائع قرب قبر الرسول الأكرم.
العلاقة بيني وبين الخالق عزّ وجل، علاقة خاصّة حميمية. وهي لا تهم أو تخصّ أحدًا سواي. لستُ ملحدًا أبدًا، بل أنا مؤمن، حد أني أكاد أزعم بأنني سلفيٌ أكثر من السلفيين، أو الذين يدّعون أنهم كذلك.
لقد خدمتُ الدين الإسلامي عبر العمل، فترجمتُ سيرة الرسول الأكرم، ومعاني القرآن إلى اللغة الفرنسية. للأسف فوجئت بأحدهم ينتقدني على ذلك، قائلًا لي: "كيف تترجم القرآن الكريم وأنت حليق؟"، ورماني أحدهم أيضًا بلقب "يوسف الزنديق"، وآخر استكثر علي حمل هذا الاسم، من دون أن يدري أن والدي سمّاني يوسفًا تيمنًا بأخيه الراحل، ولم يدر في ذهنه وقتها النبي يوسف.
* تظهر ردود فعل مماثلة، كيف أن "العوام" لو جاز التعبير، لطالما كانوا ولا يزالون أشدّاء حيال كلّ صوت مختلف ومجدّد. لكن السؤال عن النخبة، كيف تعاملت معك ومع كتاباتك؟
لا بدّ أولًا أن نتفق على أمر، فنحن نعلم أن الدين مكوّن ورافد من روافد الحضارة، إلا أن الأصل هو الثقافة بكلّ ما تحمله من معانٍ. قضيتُ زهاء أربعين عامًا أبحث وأنقّب بإخلاص. وهذه "الميزة" إن شئت لا يمتلكها إلا من يحترم الأديان.
فالباحث يمتلك أدوات بحثية ومعرفية لا تتملكها العامة، ومن أجل ذلك، دعا بعض الفلاسفة إلى تحييد العامة عن المسائل الحسّاسة، التي لو خاضوا فيها لصارت الفتنة، وذلك بسبب قلة معرفتهم والأهم عدم امتلاكهم لأدوات التحليل. هكذا وصلنا إلى كتاب أبو حامد الغزالي المعروف: "إلجام العوام عن علم الكلام". لكن اليوم، ماذا نفعل وقد صار للرعاع دولةٌ وسلطان؟ وكيف السبيل إلى إلغاء ديكتاتورية الرعاع؟.
أمّا النخبة، فهنا المفارقة الكبيرة، إذ إن نخبة الإسلام السياسي تحترم المفكّرين والباحثين. وأنا على اتصال دائم ومستمر مع النخب الإسلامية. لي لقاءات مع راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وغيرهما من رموز التيار الإسلامي في تونس. أمامهم أعبّر عن آرائي، نتناقش ونختلف، إلا أنهم لا ينكرون علي حقّي في الاختلاف، وهذا أمر جيد، لكنّه في ظنّي غير كاف، ذلك لأن مسؤولية النخب الإسلامية كبيرة، فعلى عاتقهم يقع عبء "إلجام العوام" لو استعرنا من عنوان كتاب الغزالي، ومن واجبهم بعث رسائل قوية إلى الذين يكفّرونني و"يشيطنونني". رسائل تلجم هذه الكراهية التي لا داعي لها، وتقول بوجوب احترام المخالفين في الرأي، ولا ترى سبيلًا وحيدًا للتواصل، إلا النقاش والحوار. فأنا لم أرفض أي حوار، بل على العكس، إذ أعدّ الحوار بديلًا راقيًا من "التكفير والتخوين والشيطنة".
اقرأ أيضاً: المفكر هشام جعيط: الحركات الإسلامية الراهنة تنظيمات إيديولوجية
* هذا صحيح، لكن لا يمكن إغفال أنك تستعمل تعابير غير مأنوسة وصادمة، في بسط وجهة نظرك. تعابير من قبيل "الانقلاب الأموي" و"اللحظة الرشدية المهدورة".
لو عدنا إلى التاريخ قليلًا، فقد ترجم العرب زمن المأمون كتاب "فنّ الشعر" لأرسطو، إلا أنهم لم يترجموا في الوقت نفسه محاورات سقراط الفلسفية، وعددها ثلاثة وثلاثون حواراً، وأهملوا كلّ ما يتعلّق بالسؤال وثقافة الجدل.
وفي ظني، أنّ الأمويين "سجنوا" المصحف. والمصحف ملك للقارئ لا الفقيه والمرتّل فحسب. قام الأمويون، في رأيي، بانقلاب أفسد نظام الشورى، وأصبح الحكم وراثيًا. وإذ تمّ "حصر" المصحف بين دفتين، كي تتم تلاوته لا قراءته، غدا مجالًا للترتيل لا القراءة والتفكير، من هنا أقول باسترجاع المصحف بعد "اختطافه".
وفي ما يخص "اللحظة الرشدية المهدورة"، فكما تعلم تمّ تغييب أو إخفاء كتاب ابن رشد "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" طيلة سبعة قرون. وكان يوزّع سرًا في كلّ الجامعات الأوروبية الكبرى، بسبب أن البابا وقتذاك، منع تداوله، بل وحتّى منع ذكر اسم ابن رشد.
يرى ابن رشد أن النبوّة زالت وختمت بخاتم الأنبياء: "فلو كان لي أن أختار بين مقولة جديدة لها بعد نبوي، ومقولة غيرها لها بعد عقلي، فلا مناص من أن أختار ما يقبله عقلي، لأني لم أعد قادرًا على الانتماء لمقولة نبوية بعد ختم التاريخ الرسالي". لذا أجد أننا منذ "اللحظة الرشدية المهدورة" خسرنا معركة الحرية.
* من الأمور الأخرى المثيرة للجدل في كتاباتك، قولك إن الإسلام لم يأتِ من فراغ. ولعل من المفيد التذكير بما قاله النجاشي للمسلمين المهاجرين إلى الحبشة بعد أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب آيات من سورة مريم: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
سؤالي؛ لماذا ينكر البعض تاريخية الإسلام؟ فالدين واحد، والإسلام لم يكن "بدعة" بل كان امتدادًا لديانات سبقته. فكل الأديان وخاصة التوحيدية منها تنهل من معين واحد.
بل أزيد على ذلك، إذ ثمة نصوص لأفلاطون فيها وشائج أو تشابهات مع ما يرد في القرآن الكريم. فهل كفرتُ حين كشفت عن هذه الوشائج أو التشابهات؟ هل أنا شكّكت في مصدر القرآن الكريم؟ هل أنا أنكرتُ الوحي؟ لا. أعليّ التخلّي عن صفتي كباحث، وأن ألغي أهم أسلحتي، أي السؤال؟.
لم يأتِ الإسلام من فراغ، وإنما هناك استمرارية بين الإسلام وبين الأديان التي سبقته وذلك انطلاقًا من الاعتقاد بوحدة النصوص المرجعية للأديان السماوية. وقد قادني تخصّصي في علم الأديان المقارن، للتوصل إلى حقائق لم يصل إليها خصومي، وقد اكتفوا بالنقل والوثوق بما هو قائم وموجود. فكيف نفهم النصّ القرآني من دون "تحيين"، أي وضعه في حينه وسياقه الزمني، وبمعزل عما يحيط به؟
* هذا كلّه، يدعوني إلى القول بوجود مؤسسة دينية جامدة، وعامّة تترصد كتاباتك، وأفكارك التي هي ضدّ التيار.
نعيش واقعًا مؤلمًا، فقد ارتهن أغلب الفقهاء للسلطة، وقد كان غالبيتهم في الماضي كذلك مرتهنة. ومن لم يدخل بيت الطاعة عُذّب وهمّش. انظر مثلًا إلى ما حصل للأئمة الأربعة من تنكيل، وذلك في الوقت الذي كان فقهاء البلاط ينعمون بكلّ العطايا والهبات. تغيّرت اليوم الصورة، إلا أن المؤسسة الفقهية لم تتطوّر، وظلّت تكابر وتريد انتزاع المكانة الإلهية لتنصّب نفسها سلطة مطلقة. السؤال: لماذا لم تطوّر هذه المؤسسة آليات بحثها؟ لماذا لم تستفد من التطوّرات العلمية في مجال البحث كي تستنطق النصّ الديني من خلال الإمكانات المتوفّرة لدينا اليوم، ولم تكن متوفرة لأسلافنا؟ فهل يريدون احتكار الدين، وجعله أسيرًا لفرض قراءة واحدة؟.
المفارقة أن بعض السلفيين يفاجأون أثناء حواري معهم، فيستغربون أنني أعرف الشاطبي وأحكام التنزيل والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول. ويدهشون لإلمامي بالمفسّرين والمعاجم وحفرياتي في اللغة. لقد ظنّ هؤلاء أن الدين ملكيتهم الخاصّة، وهذا سرّ خلافي معهم، فضلًا عن دعوتي لهم إلى الذهاب نحو آفاق أرحب، لنكتشف معًا عظمة القرآن بوسائل متطوّرة لا أن نكتفي بالنقل. لستُ من "القرآنيين"، لكني أفرّق بين المستوى "الحيني" (من الحين) و"الحادثي" (من الحادثة) والمستوى الكوني. وعلينا أن نميّز بين "كلّ نفس ذائقة الموت" و"إنما المشركون نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا".
ثم كيف نفسّر المسائل الدقيقة الشائكة، مثل إبطال عمر عطايا "المؤلفة قلوبهم"، وهي الموثّقة بنص واضح؟ ألم يأخذ عمر الكتاب من أبي بكر ليمزّقه قائلًا: "كان الإسلام ذليلًا، أمّا اليوم فبيننا وبينكم السيف؟".
* أنت متّهم بإثارة المهمل والضعيف من الروايات، وأنك تفعل ذلك "مستقويًا" بمعرفتك اللغوية؟
لا، فكثير من المفسّرين المعروفين مثل ابن كثير، يقولون إن عمر بن الخطاب كان يقرأ سورة "الفيل" وسورة "قريش" كسورة واحدة. بل يذهب أبعد من ذلك، حين يؤكّد في تفسيره "أن عثمان أراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما". مثالٌ آخر، أن السجستاني روى أن المصاحف التي أمر عثمان بإتلافها تختلف عن المصحف الموّحد في تنظيم السور والآيات. فأنا لا أهتم بإثارة المهمل والضعيف، ولا أريد إثارة الشبهات ولا التشكيك، بل يعنيني بالدرجة الأولى، تجاوز ما هو سائد من أجل لحظة واعية.
المشكلة أننا لم نقرأ القرآن الكريم بمعنى محاورته، بدلًا من الاكتفاء بترتيله. وحتى اللغة لم نحسن التعاطي معها. مثال آخر، نسمي اليوم "طه" و"ياسين" باعتبارهما من أسماء الرسول، وما هما إلا حروف تبدأ بهما سورتان. أسمعنا مثلًا قبل مائتي سنة بمن سمّى ابنه طه وياسين بدعوى أنهما اسمان للرسول الأكرم؟. وحين أقول أن لا وجود للسنة في القرآن، فإنما أقصد أن المفردة تعني سنة الأولين، أساطير الأولين، أمّا سنة الله فهي قانون الكون: "ولن تجد لسنة الله تبديلًا". وحتى الآية المعتمد عليها في تفسير ذلك: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، فقد نزلت في سياق لا علاقة له بالسّنة. والتفسير هو ما آتاكم الرسول (من الغنائم) فخذوه، أي ليس بمعنى الاقتداء أو ما شابه ذلك. أنا مسكون بالسؤال: ما الشريعة؟ وما السنة؟ من الفقهاء؟ من الصحابة؟ من المبشّرون بالجنّة؟ ما الوحي؟ ما العبادات؟ ما جذورها؟ كيف ظهر المصحف؟ ما اللغة؟ ما علاقة الإسلام بما سبقه وما حوله؟. لذا أناضل من أجل "عمودية" الإيمان، أي لتكون علاقتي مع ربّي من الأرض صوب السماء، أمّا الإيمان "الأفقي" فهو يخصّ العلاقة بين البشر ومعهم، بما في ذلك الطقوس والاحتفالات التي تتغيّر من مجتمع إلى آخر. لقد أطاح الدين الإسلامي الرهبنة، فالإسلام دينٌ لا رهبنة فيه، ولا وسيط بين الله وعبده. الأرض كلّها مكان العبادة، والعبادة ليست مقتصرة على مكان بعينه.
* لسنين عديدة، قمت بتدريس اليونانية القديمة، ومن خلال أبحاثك وثّقت ثمانمائة كلمة واردة في القرآن الكريم، ذات أصل يوناني قديم. فما الذي أردت أن تبرهن عليه، خاصّة وأن هذه الكلمات موجودة في اللغة العربية؟
صحيح، توجد مئات الكلمات في القرآن الكريم من أصل يوناني، مثل أمنية، وطاغوت وحنيف، والغرانيق ولغو وحرث وكوثر وأبابيل.
* لكن الباحث عمار الجلاصي، برهن في دراسة نقدية له، كيف أنك تعسّفت في بحثك؟
لم أطلع على هذه الدراسة. لكن انتبه، لم أزعم البتة أن العرب سرقوا من اليونان، أو أن القرآن اقتبس من اليونانيين، إنما يوجد تواصل بين اليونان والعرب، وما لا يعرفه كثيرون أن الشعب اليوناني كان موجودًا في جنوب سورية، وأن هناك ثلاثة عشر إمبراطورًا يونانيًا من أصل عربي من بينهم كاليغولا، أي "خليق الله".
* تبدو وكأنك تصارع على عدّة جبهات، وما زلت محتفظًا بحماستك وإصرارك واعتمادك على الكلمة وحدها.
فهمت من كلمة صراع كما لو أنك تلمّح إلى حملات التكفير والشيطنة التي أتعرّض لها. ما يحزّ في نفسي أن أمّة القرآن الذي دعا إلى الحوار والجدل والبناء، لا تحسن الحوار. وأن أمة اقرأ، لا تقرأ، وإن قرأت فلا تعرف كيف تقرأ. لكنني لا أدّعي بأنني مناضل ولا دونكيشوت، أنا أبسط أفكارًا وأدعو إلى كلمة سواء، عمادها الحفر في كلّ ما حولنا ومساءلته بعيدًا من الوصاية والكهانة والرهبانية والفهم المسطح واليقينية القاتلة. وألّا أستند إلا إلى الكلمة، فليس أمرًا هينًا. عشتُ بسيطًا وسأظلّ، لم أتجه صوب مؤسسات الدولة ولا أي جهات حكومية. أتقاضى معاشي بعيدًا من تحالفات مع من يغش أو يخفي أطماعًا شخصية أو يبحث عن الزعامة. ولم أقل كل ما لديّ بعد، ما زال لدي الكثير، لكني أنتظر لحظة نكون فيها أكثر تسامحًا، أنا أضبط نفسي حفاظًا على وجودي.
* لماذا عجزنا نحن العرب عن تقديم فلاسفة؟
أوّل من وضع عبارة "فيلسوف" هو عبد الله بن المقفع في مقدّمة كتابه "كليلة ودمنة". ظلّ الفيلسوف طوال الحضارة العربية الإسلامية، يثير الريبة ومحل شبهة ومتهما بإفساد العقول. بل إن سقراط نفسه تجرّع السم لهذا السبب. الغريب أن القرآن مجّد الفلاسفة أهل الحكمة: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا". تحتوي الفلسفة العلوم وهي تعني: "الاقتراب من الحكمة دون نيلها". فالفلسفة والعبادة متكاملتان، ألم يقل الله في كتابه العزيز: "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" وقال أيضًا: "ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون"، فهو يوحّد الإيمان والعقل، للوصول بالإنسان إلى أعلى المراتب وتسيّد الكون.
ربما أصدمك بالقول إننا لم نعرف فيلسوفًا بالمعنى التام للعبارة، لم نعرف فيلسوفًا مثل سبينوزا أو هيغل أو كانط. لقد تزاملت مع عبد الرحمن بدوي وعرفت فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وغيرهم، إلا أنني لا أعدّهم، وهم أهم مني، فلاسفة. ولا أعدّ نفسي فيلسوفًا لأن الفيلسوف له منظومة متماسكة وصلبة وتصور ورؤية لكلّ تفاصيل الكون والحياة.
لكأن قدرنا ألا ننتج فلسفة ونحن على هذا النحو، محكومون بطغيان ما هو "تعبّدي". وفي ظنّي لا بدّ من وجود تناسق وتساوق وانسجام بين ما هو تعبّدي مع روح النصّ الذي يدعونا ويحضنا على تأمّل ما فيه من فلسفة عميقة. وقد تفطّن الزمخشري والرازي والقشيري لذلك، لكن سرعان ما أُجهض توجههم. الفيلسوف العربي أو مشروع الفيلسوف العربي إمّا مهمّش أو مطارد، في حين أن موقعه الطبيعي أن يكون رائدًا يرجع الناس إلى ميزان النقد أي يضع بين أسنانه، وفقًا للمعنى الأصلي للفظ النقد، أي النقود لتبيان الصلي من المزيّف منها.
*أما زال للاستشراق من معنى في زمن العولمة؟. وهل مقولة "الإسلام في خطر" حقيقة أم فزاعة؟
لكل حركة وجهان واحد إيجابي وآخر سلبي. للاستشراق مزايا كثيرة وأفضال على العربية والإسلام من حيث تقديمهما للآخر. لكن ليس من العدل المساواة بين جاك بيرك وماكسيم رودنسون مثلًا مع برنار لويس الذي كان موظفًا في مؤسسة مخابراتية. وبعد الدراسة العميقة لإدوارد سعيد، انتهى عصر الاستشراق حين تمّ تحويل وجهة العلم إلى تقارير جُيّرت لخدمة الاستعمار. الإسلام لا يواجه إلا خطر من ينتمون إليه، إذ يسيئون إليه من حيث يعتقدون أنهم حماته عن جهل رغم صدق نواياهم.
* كنا ننتظر منك كتابًا حول الثورات العربية والربيع العربي، لكنك واصلت سلسلة أبحاثك فكان كتاب "الآخر والآخرون في القرآن"، لماذا؟
أحس أن العمر يمضي وما زالت الفكرة التي تخامرني تحتاج مني إلى تبيان. ما زلت أصر على أن "عمودية" الدين هي قارب النجاة. علمانية الإسلام مؤكّدة لا بالمعنى المحرّف والمتداول، إنما بمعنى أن كلّ الفضاء حلال والعلاقة مع الله لا تحتاج إلى وسيط. أشعر أن في رقبتي أمانة، ولا بدّ أن أقولها وأدوّنها للأجيال المقبلة. وفي ما يخصّ الثورات العربية فقد قلت رأيي في الأمر من خلال كتابين / حوارين بيني وبين الكاتب والصحفي الفرنسي جيل فانديرتوتن.
* أنت الآن في فرنسا من أجل إنشاء "نوادي الاختلاف"، فما هي وما الغاية منها؟
ثمة إجماع على أن الخطاب المهيمن اليوم، خطابٌ موحد ذو وجهة تعبّدية بمعنى "المناسك والشعائر والطقوس"، وهو خطاب لا يتيح للآخر مجالًا للاختلاف. وهذا ما يهدّد الخطاب الفكري، لأن الخطاب "التعبدي" رغم قداسته ورغم الاحترام الذي نكنّه له، لا بدّ أن يكون مشفوعًا بفضاء آخر. لا بدّ من مساحة اختلاف من أجل ضمان الثراء والتعدد.
لقد عانينا طيلة سنوات من استبداد الرأي الواحد والخطاب الواحد. لكننا لا ننكر أن زمن بورقيبة، رغم طابعه الاستبدادي، قد فتح مجالًا للاختلاف، إذ كنّا وقتها نناقش الماركسية وثورة الزنج والمقولات البعثية في النوادي والملتقيات. أمّا هذا الخطاب الموحّد "التعبدي"، فيمكن أن يكون حاضنة للإرهاب. لذلك فكرتُ في نوادي الاختلاف، كي تكون صمام أمان ضدّ الانحراف نحو الإرهاب، لأن الحل الأمني غير كافٍ، بل لا بدّ من التعايش السلمي والصراع سلميًا حول الأفكار، وهذا مطلب شرعي وديني فـ "اختلاف أمتي رحمة". هذا المشروع الذي سينطلق قريبًا في تونس، آمن به وباركه الأستاذ الحبيب الصيد رئيس الوزراء التونسي. وقد أجريت اتصالات مع بعض الوزراء لهذا الغرض. أمّا فرنسا فقد رحبت هي الأخرى بهذا المشروع، وقد التقيت بالسيدة نجاة فالو بلقاسم، وزيرة التربية الفرنسية ذات الأصل المغربي. وأعكف الآن على رسم الخطوط العريضة لهذا المشروع الذي سينطلق قريبًا، حيث سأقترح 24 موضوعًا للنقاش على مدار السنة، كي نتحاور فيها. ففرنسا التي تضم 6 ملايين مسلم، معنية بموضوع الإرهاب ويهمها الحوار مثلما يعنينا أن نرسي في معاهدنا ونوادينا منابر للحوار والاختلاف.
* كتاباتك كلّها باللغة الفرنسية، فكيف تنظر إلى الفرنسية، أتعدّها منفى أم غنيمة؟
اللغة عندي باثٌ ومتقبّل. أحرص على الدقّة وإيصال المفيد من الكلام. لست شاعرًا ولا روائيًا ولا أحب زخرف الكلام ولا الثرثرة. أحب اللغة العربية كأداة فلسفية، لكن للأسف ليس لها قرّاء، وهذا ما يقلقني، لأني أريد الكتابة بهذه اللغة التي أعشقها. من هذا المنطلق لا يمكن الحديث عن منفى ولا عن غنيمة.
* أحيانًا يجري الاحتفاء بك هنا في فرنسا، وأحيانًا أخرى يناصبونك العداء، فما السبب؟
من هم؟ فرنسا ليست واحدة، فرنسا متعددة. في فرنسا يحترمون عقيدتك ويحترمون أفكارك ويقدّرون معرفتك. أذكر أن جريدة "لوموند" الفرنسية رفضت مرّة نشر مقال لي، ثم اتخذت مني موقفًا ولم تنشر لي أي حرف لأني أرسلت لهم مقالًا فيه دفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأوا فيه مدحًا غير مبرر على حدّ قولهم. ثم، فوجئت بتخصيصهم سنة 2002 لعدد خاصّ حول فيلم أعددتُه لقناة فرنسية عن الرسول الأكرم. وما زلت أذكر كيف انسحب أحد محاوري على القناة الفرنسية الثالثة، فقد كان يدافع عمّن ادعى أنه مهدد من المسلمين، إلا أنني كشفتُ كيف كان يبعث لنفسه رسائل إلكترونية، ويهدّد نفسه.
لطالما سُئلت عما يخصّ الإيمان، وأخيرًا وجه إليّ سؤالك نفسه، فأجبت أني لا أظن أن ثمة في هذه الدنيا، مفكّر ملحد. وأنا خلال أبحاثي الطويلة، لم أجد في فلسفة الإله والموت أفضل من فلسفة سبينوزا التي تقول بأن الله ليس في حاجة إلى التموقع. وكما جاء في النص القرآني "وسع كرسيّه السماوات والأرض"، هو الكل وله المواقع كلّها. وبالتالي فإن الله عزّ وجل، لا ترفعه السماوات والأرض باعتباره الإله المطلق، ولا يحدّه زمان ولا مكان كما هو معروفٌ في علم العقائد، باستثناء ما ورد لدى التيّار الحرفي المعروف بـ السلفية الحرفية.
وقد زرت بيت الله الحرام ثلاث مرات، وفي إحداها قرأتُ الفاتحة على قبر الرسول محمّد، وكانت تجربة عاطفية وروحانية ووجدانية، أثّرت في نفسي على نحو لا يوصف، إلا أنّه حزّ في نفسي وجود بائع قرب قبر الرسول الأكرم.
العلاقة بيني وبين الخالق عزّ وجل، علاقة خاصّة حميمية. وهي لا تهم أو تخصّ أحدًا سواي. لستُ ملحدًا أبدًا، بل أنا مؤمن، حد أني أكاد أزعم بأنني سلفيٌ أكثر من السلفيين، أو الذين يدّعون أنهم كذلك.
لقد خدمتُ الدين الإسلامي عبر العمل، فترجمتُ سيرة الرسول الأكرم، ومعاني القرآن إلى اللغة الفرنسية. للأسف فوجئت بأحدهم ينتقدني على ذلك، قائلًا لي: "كيف تترجم القرآن الكريم وأنت حليق؟"، ورماني أحدهم أيضًا بلقب "يوسف الزنديق"، وآخر استكثر علي حمل هذا الاسم، من دون أن يدري أن والدي سمّاني يوسفًا تيمنًا بأخيه الراحل، ولم يدر في ذهنه وقتها النبي يوسف.
* تظهر ردود فعل مماثلة، كيف أن "العوام" لو جاز التعبير، لطالما كانوا ولا يزالون أشدّاء حيال كلّ صوت مختلف ومجدّد. لكن السؤال عن النخبة، كيف تعاملت معك ومع كتاباتك؟
لا بدّ أولًا أن نتفق على أمر، فنحن نعلم أن الدين مكوّن ورافد من روافد الحضارة، إلا أن الأصل هو الثقافة بكلّ ما تحمله من معانٍ. قضيتُ زهاء أربعين عامًا أبحث وأنقّب بإخلاص. وهذه "الميزة" إن شئت لا يمتلكها إلا من يحترم الأديان.
فالباحث يمتلك أدوات بحثية ومعرفية لا تتملكها العامة، ومن أجل ذلك، دعا بعض الفلاسفة إلى تحييد العامة عن المسائل الحسّاسة، التي لو خاضوا فيها لصارت الفتنة، وذلك بسبب قلة معرفتهم والأهم عدم امتلاكهم لأدوات التحليل. هكذا وصلنا إلى كتاب أبو حامد الغزالي المعروف: "إلجام العوام عن علم الكلام". لكن اليوم، ماذا نفعل وقد صار للرعاع دولةٌ وسلطان؟ وكيف السبيل إلى إلغاء ديكتاتورية الرعاع؟.
أمّا النخبة، فهنا المفارقة الكبيرة، إذ إن نخبة الإسلام السياسي تحترم المفكّرين والباحثين. وأنا على اتصال دائم ومستمر مع النخب الإسلامية. لي لقاءات مع راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وغيرهما من رموز التيار الإسلامي في تونس. أمامهم أعبّر عن آرائي، نتناقش ونختلف، إلا أنهم لا ينكرون علي حقّي في الاختلاف، وهذا أمر جيد، لكنّه في ظنّي غير كاف، ذلك لأن مسؤولية النخب الإسلامية كبيرة، فعلى عاتقهم يقع عبء "إلجام العوام" لو استعرنا من عنوان كتاب الغزالي، ومن واجبهم بعث رسائل قوية إلى الذين يكفّرونني و"يشيطنونني". رسائل تلجم هذه الكراهية التي لا داعي لها، وتقول بوجوب احترام المخالفين في الرأي، ولا ترى سبيلًا وحيدًا للتواصل، إلا النقاش والحوار. فأنا لم أرفض أي حوار، بل على العكس، إذ أعدّ الحوار بديلًا راقيًا من "التكفير والتخوين والشيطنة".
اقرأ أيضاً: المفكر هشام جعيط: الحركات الإسلامية الراهنة تنظيمات إيديولوجية
* هذا صحيح، لكن لا يمكن إغفال أنك تستعمل تعابير غير مأنوسة وصادمة، في بسط وجهة نظرك. تعابير من قبيل "الانقلاب الأموي" و"اللحظة الرشدية المهدورة".
لو عدنا إلى التاريخ قليلًا، فقد ترجم العرب زمن المأمون كتاب "فنّ الشعر" لأرسطو، إلا أنهم لم يترجموا في الوقت نفسه محاورات سقراط الفلسفية، وعددها ثلاثة وثلاثون حواراً، وأهملوا كلّ ما يتعلّق بالسؤال وثقافة الجدل.
وفي ظني، أنّ الأمويين "سجنوا" المصحف. والمصحف ملك للقارئ لا الفقيه والمرتّل فحسب. قام الأمويون، في رأيي، بانقلاب أفسد نظام الشورى، وأصبح الحكم وراثيًا. وإذ تمّ "حصر" المصحف بين دفتين، كي تتم تلاوته لا قراءته، غدا مجالًا للترتيل لا القراءة والتفكير، من هنا أقول باسترجاع المصحف بعد "اختطافه".
وفي ما يخص "اللحظة الرشدية المهدورة"، فكما تعلم تمّ تغييب أو إخفاء كتاب ابن رشد "فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال" طيلة سبعة قرون. وكان يوزّع سرًا في كلّ الجامعات الأوروبية الكبرى، بسبب أن البابا وقتذاك، منع تداوله، بل وحتّى منع ذكر اسم ابن رشد.
يرى ابن رشد أن النبوّة زالت وختمت بخاتم الأنبياء: "فلو كان لي أن أختار بين مقولة جديدة لها بعد نبوي، ومقولة غيرها لها بعد عقلي، فلا مناص من أن أختار ما يقبله عقلي، لأني لم أعد قادرًا على الانتماء لمقولة نبوية بعد ختم التاريخ الرسالي". لذا أجد أننا منذ "اللحظة الرشدية المهدورة" خسرنا معركة الحرية.
* من الأمور الأخرى المثيرة للجدل في كتاباتك، قولك إن الإسلام لم يأتِ من فراغ. ولعل من المفيد التذكير بما قاله النجاشي للمسلمين المهاجرين إلى الحبشة بعد أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب آيات من سورة مريم: إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
سؤالي؛ لماذا ينكر البعض تاريخية الإسلام؟ فالدين واحد، والإسلام لم يكن "بدعة" بل كان امتدادًا لديانات سبقته. فكل الأديان وخاصة التوحيدية منها تنهل من معين واحد.
بل أزيد على ذلك، إذ ثمة نصوص لأفلاطون فيها وشائج أو تشابهات مع ما يرد في القرآن الكريم. فهل كفرتُ حين كشفت عن هذه الوشائج أو التشابهات؟ هل أنا شكّكت في مصدر القرآن الكريم؟ هل أنا أنكرتُ الوحي؟ لا. أعليّ التخلّي عن صفتي كباحث، وأن ألغي أهم أسلحتي، أي السؤال؟.
لم يأتِ الإسلام من فراغ، وإنما هناك استمرارية بين الإسلام وبين الأديان التي سبقته وذلك انطلاقًا من الاعتقاد بوحدة النصوص المرجعية للأديان السماوية. وقد قادني تخصّصي في علم الأديان المقارن، للتوصل إلى حقائق لم يصل إليها خصومي، وقد اكتفوا بالنقل والوثوق بما هو قائم وموجود. فكيف نفهم النصّ القرآني من دون "تحيين"، أي وضعه في حينه وسياقه الزمني، وبمعزل عما يحيط به؟
* هذا كلّه، يدعوني إلى القول بوجود مؤسسة دينية جامدة، وعامّة تترصد كتاباتك، وأفكارك التي هي ضدّ التيار.
نعيش واقعًا مؤلمًا، فقد ارتهن أغلب الفقهاء للسلطة، وقد كان غالبيتهم في الماضي كذلك مرتهنة. ومن لم يدخل بيت الطاعة عُذّب وهمّش. انظر مثلًا إلى ما حصل للأئمة الأربعة من تنكيل، وذلك في الوقت الذي كان فقهاء البلاط ينعمون بكلّ العطايا والهبات. تغيّرت اليوم الصورة، إلا أن المؤسسة الفقهية لم تتطوّر، وظلّت تكابر وتريد انتزاع المكانة الإلهية لتنصّب نفسها سلطة مطلقة. السؤال: لماذا لم تطوّر هذه المؤسسة آليات بحثها؟ لماذا لم تستفد من التطوّرات العلمية في مجال البحث كي تستنطق النصّ الديني من خلال الإمكانات المتوفّرة لدينا اليوم، ولم تكن متوفرة لأسلافنا؟ فهل يريدون احتكار الدين، وجعله أسيرًا لفرض قراءة واحدة؟.
المفارقة أن بعض السلفيين يفاجأون أثناء حواري معهم، فيستغربون أنني أعرف الشاطبي وأحكام التنزيل والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول. ويدهشون لإلمامي بالمفسّرين والمعاجم وحفرياتي في اللغة. لقد ظنّ هؤلاء أن الدين ملكيتهم الخاصّة، وهذا سرّ خلافي معهم، فضلًا عن دعوتي لهم إلى الذهاب نحو آفاق أرحب، لنكتشف معًا عظمة القرآن بوسائل متطوّرة لا أن نكتفي بالنقل. لستُ من "القرآنيين"، لكني أفرّق بين المستوى "الحيني" (من الحين) و"الحادثي" (من الحادثة) والمستوى الكوني. وعلينا أن نميّز بين "كلّ نفس ذائقة الموت" و"إنما المشركون نجس فلا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا".
ثم كيف نفسّر المسائل الدقيقة الشائكة، مثل إبطال عمر عطايا "المؤلفة قلوبهم"، وهي الموثّقة بنص واضح؟ ألم يأخذ عمر الكتاب من أبي بكر ليمزّقه قائلًا: "كان الإسلام ذليلًا، أمّا اليوم فبيننا وبينكم السيف؟".
* أنت متّهم بإثارة المهمل والضعيف من الروايات، وأنك تفعل ذلك "مستقويًا" بمعرفتك اللغوية؟
لا، فكثير من المفسّرين المعروفين مثل ابن كثير، يقولون إن عمر بن الخطاب كان يقرأ سورة "الفيل" وسورة "قريش" كسورة واحدة. بل يذهب أبعد من ذلك، حين يؤكّد في تفسيره "أن عثمان أراد أن يجعل سورة باسم قريش ففرقهما". مثالٌ آخر، أن السجستاني روى أن المصاحف التي أمر عثمان بإتلافها تختلف عن المصحف الموّحد في تنظيم السور والآيات. فأنا لا أهتم بإثارة المهمل والضعيف، ولا أريد إثارة الشبهات ولا التشكيك، بل يعنيني بالدرجة الأولى، تجاوز ما هو سائد من أجل لحظة واعية.
المشكلة أننا لم نقرأ القرآن الكريم بمعنى محاورته، بدلًا من الاكتفاء بترتيله. وحتى اللغة لم نحسن التعاطي معها. مثال آخر، نسمي اليوم "طه" و"ياسين" باعتبارهما من أسماء الرسول، وما هما إلا حروف تبدأ بهما سورتان. أسمعنا مثلًا قبل مائتي سنة بمن سمّى ابنه طه وياسين بدعوى أنهما اسمان للرسول الأكرم؟. وحين أقول أن لا وجود للسنة في القرآن، فإنما أقصد أن المفردة تعني سنة الأولين، أساطير الأولين، أمّا سنة الله فهي قانون الكون: "ولن تجد لسنة الله تبديلًا". وحتى الآية المعتمد عليها في تفسير ذلك: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، فقد نزلت في سياق لا علاقة له بالسّنة. والتفسير هو ما آتاكم الرسول (من الغنائم) فخذوه، أي ليس بمعنى الاقتداء أو ما شابه ذلك. أنا مسكون بالسؤال: ما الشريعة؟ وما السنة؟ من الفقهاء؟ من الصحابة؟ من المبشّرون بالجنّة؟ ما الوحي؟ ما العبادات؟ ما جذورها؟ كيف ظهر المصحف؟ ما اللغة؟ ما علاقة الإسلام بما سبقه وما حوله؟. لذا أناضل من أجل "عمودية" الإيمان، أي لتكون علاقتي مع ربّي من الأرض صوب السماء، أمّا الإيمان "الأفقي" فهو يخصّ العلاقة بين البشر ومعهم، بما في ذلك الطقوس والاحتفالات التي تتغيّر من مجتمع إلى آخر. لقد أطاح الدين الإسلامي الرهبنة، فالإسلام دينٌ لا رهبنة فيه، ولا وسيط بين الله وعبده. الأرض كلّها مكان العبادة، والعبادة ليست مقتصرة على مكان بعينه.
* لسنين عديدة، قمت بتدريس اليونانية القديمة، ومن خلال أبحاثك وثّقت ثمانمائة كلمة واردة في القرآن الكريم، ذات أصل يوناني قديم. فما الذي أردت أن تبرهن عليه، خاصّة وأن هذه الكلمات موجودة في اللغة العربية؟
صحيح، توجد مئات الكلمات في القرآن الكريم من أصل يوناني، مثل أمنية، وطاغوت وحنيف، والغرانيق ولغو وحرث وكوثر وأبابيل.
* لكن الباحث عمار الجلاصي، برهن في دراسة نقدية له، كيف أنك تعسّفت في بحثك؟
لم أطلع على هذه الدراسة. لكن انتبه، لم أزعم البتة أن العرب سرقوا من اليونان، أو أن القرآن اقتبس من اليونانيين، إنما يوجد تواصل بين اليونان والعرب، وما لا يعرفه كثيرون أن الشعب اليوناني كان موجودًا في جنوب سورية، وأن هناك ثلاثة عشر إمبراطورًا يونانيًا من أصل عربي من بينهم كاليغولا، أي "خليق الله".
* تبدو وكأنك تصارع على عدّة جبهات، وما زلت محتفظًا بحماستك وإصرارك واعتمادك على الكلمة وحدها.
فهمت من كلمة صراع كما لو أنك تلمّح إلى حملات التكفير والشيطنة التي أتعرّض لها. ما يحزّ في نفسي أن أمّة القرآن الذي دعا إلى الحوار والجدل والبناء، لا تحسن الحوار. وأن أمة اقرأ، لا تقرأ، وإن قرأت فلا تعرف كيف تقرأ. لكنني لا أدّعي بأنني مناضل ولا دونكيشوت، أنا أبسط أفكارًا وأدعو إلى كلمة سواء، عمادها الحفر في كلّ ما حولنا ومساءلته بعيدًا من الوصاية والكهانة والرهبانية والفهم المسطح واليقينية القاتلة. وألّا أستند إلا إلى الكلمة، فليس أمرًا هينًا. عشتُ بسيطًا وسأظلّ، لم أتجه صوب مؤسسات الدولة ولا أي جهات حكومية. أتقاضى معاشي بعيدًا من تحالفات مع من يغش أو يخفي أطماعًا شخصية أو يبحث عن الزعامة. ولم أقل كل ما لديّ بعد، ما زال لدي الكثير، لكني أنتظر لحظة نكون فيها أكثر تسامحًا، أنا أضبط نفسي حفاظًا على وجودي.
* لماذا عجزنا نحن العرب عن تقديم فلاسفة؟
أوّل من وضع عبارة "فيلسوف" هو عبد الله بن المقفع في مقدّمة كتابه "كليلة ودمنة". ظلّ الفيلسوف طوال الحضارة العربية الإسلامية، يثير الريبة ومحل شبهة ومتهما بإفساد العقول. بل إن سقراط نفسه تجرّع السم لهذا السبب. الغريب أن القرآن مجّد الفلاسفة أهل الحكمة: "يؤتي الحكمة من يشاء ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا". تحتوي الفلسفة العلوم وهي تعني: "الاقتراب من الحكمة دون نيلها". فالفلسفة والعبادة متكاملتان، ألم يقل الله في كتابه العزيز: "ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون" وقال أيضًا: "ويجعل الرجس على الذين لا يؤمنون"، فهو يوحّد الإيمان والعقل، للوصول بالإنسان إلى أعلى المراتب وتسيّد الكون.
ربما أصدمك بالقول إننا لم نعرف فيلسوفًا بالمعنى التام للعبارة، لم نعرف فيلسوفًا مثل سبينوزا أو هيغل أو كانط. لقد تزاملت مع عبد الرحمن بدوي وعرفت فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وغيرهم، إلا أنني لا أعدّهم، وهم أهم مني، فلاسفة. ولا أعدّ نفسي فيلسوفًا لأن الفيلسوف له منظومة متماسكة وصلبة وتصور ورؤية لكلّ تفاصيل الكون والحياة.
لكأن قدرنا ألا ننتج فلسفة ونحن على هذا النحو، محكومون بطغيان ما هو "تعبّدي". وفي ظنّي لا بدّ من وجود تناسق وتساوق وانسجام بين ما هو تعبّدي مع روح النصّ الذي يدعونا ويحضنا على تأمّل ما فيه من فلسفة عميقة. وقد تفطّن الزمخشري والرازي والقشيري لذلك، لكن سرعان ما أُجهض توجههم. الفيلسوف العربي أو مشروع الفيلسوف العربي إمّا مهمّش أو مطارد، في حين أن موقعه الطبيعي أن يكون رائدًا يرجع الناس إلى ميزان النقد أي يضع بين أسنانه، وفقًا للمعنى الأصلي للفظ النقد، أي النقود لتبيان الصلي من المزيّف منها.
*أما زال للاستشراق من معنى في زمن العولمة؟. وهل مقولة "الإسلام في خطر" حقيقة أم فزاعة؟
لكل حركة وجهان واحد إيجابي وآخر سلبي. للاستشراق مزايا كثيرة وأفضال على العربية والإسلام من حيث تقديمهما للآخر. لكن ليس من العدل المساواة بين جاك بيرك وماكسيم رودنسون مثلًا مع برنار لويس الذي كان موظفًا في مؤسسة مخابراتية. وبعد الدراسة العميقة لإدوارد سعيد، انتهى عصر الاستشراق حين تمّ تحويل وجهة العلم إلى تقارير جُيّرت لخدمة الاستعمار. الإسلام لا يواجه إلا خطر من ينتمون إليه، إذ يسيئون إليه من حيث يعتقدون أنهم حماته عن جهل رغم صدق نواياهم.
* كنا ننتظر منك كتابًا حول الثورات العربية والربيع العربي، لكنك واصلت سلسلة أبحاثك فكان كتاب "الآخر والآخرون في القرآن"، لماذا؟
أحس أن العمر يمضي وما زالت الفكرة التي تخامرني تحتاج مني إلى تبيان. ما زلت أصر على أن "عمودية" الدين هي قارب النجاة. علمانية الإسلام مؤكّدة لا بالمعنى المحرّف والمتداول، إنما بمعنى أن كلّ الفضاء حلال والعلاقة مع الله لا تحتاج إلى وسيط. أشعر أن في رقبتي أمانة، ولا بدّ أن أقولها وأدوّنها للأجيال المقبلة. وفي ما يخصّ الثورات العربية فقد قلت رأيي في الأمر من خلال كتابين / حوارين بيني وبين الكاتب والصحفي الفرنسي جيل فانديرتوتن.
* أنت الآن في فرنسا من أجل إنشاء "نوادي الاختلاف"، فما هي وما الغاية منها؟
ثمة إجماع على أن الخطاب المهيمن اليوم، خطابٌ موحد ذو وجهة تعبّدية بمعنى "المناسك والشعائر والطقوس"، وهو خطاب لا يتيح للآخر مجالًا للاختلاف. وهذا ما يهدّد الخطاب الفكري، لأن الخطاب "التعبدي" رغم قداسته ورغم الاحترام الذي نكنّه له، لا بدّ أن يكون مشفوعًا بفضاء آخر. لا بدّ من مساحة اختلاف من أجل ضمان الثراء والتعدد.
لقد عانينا طيلة سنوات من استبداد الرأي الواحد والخطاب الواحد. لكننا لا ننكر أن زمن بورقيبة، رغم طابعه الاستبدادي، قد فتح مجالًا للاختلاف، إذ كنّا وقتها نناقش الماركسية وثورة الزنج والمقولات البعثية في النوادي والملتقيات. أمّا هذا الخطاب الموحّد "التعبدي"، فيمكن أن يكون حاضنة للإرهاب. لذلك فكرتُ في نوادي الاختلاف، كي تكون صمام أمان ضدّ الانحراف نحو الإرهاب، لأن الحل الأمني غير كافٍ، بل لا بدّ من التعايش السلمي والصراع سلميًا حول الأفكار، وهذا مطلب شرعي وديني فـ "اختلاف أمتي رحمة". هذا المشروع الذي سينطلق قريبًا في تونس، آمن به وباركه الأستاذ الحبيب الصيد رئيس الوزراء التونسي. وقد أجريت اتصالات مع بعض الوزراء لهذا الغرض. أمّا فرنسا فقد رحبت هي الأخرى بهذا المشروع، وقد التقيت بالسيدة نجاة فالو بلقاسم، وزيرة التربية الفرنسية ذات الأصل المغربي. وأعكف الآن على رسم الخطوط العريضة لهذا المشروع الذي سينطلق قريبًا، حيث سأقترح 24 موضوعًا للنقاش على مدار السنة، كي نتحاور فيها. ففرنسا التي تضم 6 ملايين مسلم، معنية بموضوع الإرهاب ويهمها الحوار مثلما يعنينا أن نرسي في معاهدنا ونوادينا منابر للحوار والاختلاف.
* كتاباتك كلّها باللغة الفرنسية، فكيف تنظر إلى الفرنسية، أتعدّها منفى أم غنيمة؟
اللغة عندي باثٌ ومتقبّل. أحرص على الدقّة وإيصال المفيد من الكلام. لست شاعرًا ولا روائيًا ولا أحب زخرف الكلام ولا الثرثرة. أحب اللغة العربية كأداة فلسفية، لكن للأسف ليس لها قرّاء، وهذا ما يقلقني، لأني أريد الكتابة بهذه اللغة التي أعشقها. من هذا المنطلق لا يمكن الحديث عن منفى ولا عن غنيمة.
* أحيانًا يجري الاحتفاء بك هنا في فرنسا، وأحيانًا أخرى يناصبونك العداء، فما السبب؟
من هم؟ فرنسا ليست واحدة، فرنسا متعددة. في فرنسا يحترمون عقيدتك ويحترمون أفكارك ويقدّرون معرفتك. أذكر أن جريدة "لوموند" الفرنسية رفضت مرّة نشر مقال لي، ثم اتخذت مني موقفًا ولم تنشر لي أي حرف لأني أرسلت لهم مقالًا فيه دفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فرأوا فيه مدحًا غير مبرر على حدّ قولهم. ثم، فوجئت بتخصيصهم سنة 2002 لعدد خاصّ حول فيلم أعددتُه لقناة فرنسية عن الرسول الأكرم. وما زلت أذكر كيف انسحب أحد محاوري على القناة الفرنسية الثالثة، فقد كان يدافع عمّن ادعى أنه مهدد من المسلمين، إلا أنني كشفتُ كيف كان يبعث لنفسه رسائل إلكترونية، ويهدّد نفسه.