صادف الخامس من أيار/ مايو الحالي مرور مئة عام على ميلاد مؤسّس مجلة "شعر"، الشاعر السوري اللبناني يوسف الخال (1916- 1987)، تلك المجلة التي ساهمت صفحاتها طيلة ما يقارب السنوات العشر، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي وحتى منتصف ستينياته، في بثّ الحيوية في عالم الشعر العربي الحديث، وإضافة عناصر تجديدية لا تزال آثارها فاعلة حتى اليوم.
الحديث عن المجلة يستدعي الحديث عن مؤسّسها والعكس صحيح، إلا أن للرجل تراثه أيضاً بمعزل عن مشروع المجلة، بمعنى أن له مواقف ونظرات شخصية قد لا تتوافق معه كفرد في جماعة انتشرت أفكارها واتجاهاتها على صفحات المجلة. هذه المواقف والنظرات هي التي وضع اسمه تحتها أو فوقها، وهي مواقف ونظرات بعضها جدير بالاهتمام، وبعضها جدير بالتجاهل.
منذ الأيام الأولى لظهور المجلة بين العامين 1957 و1964، وهي أخصب فتراتها قبل أن تتوقّف ثم تعود إلى الظهور والاختفاء في العام 1970، تأخّر ظهور الخال تأخراً واضحاً، إلا من بضعة قصائد تميّزت بالتأمّل الهادئ في أعماق مجرّدة. ولكنه سرعان ما بدأ نشاطه النقدي حين ألقى محاضرة في الندوة اللبنانية في العام 1957 تحت عنوان "مستقبل الشعر العربي في لبنان"، قدّم فيها توصيفاً للشعر في لبنان طيلة قرن ونصف القرن.
وخلص من استعراضه الوصفي إلى القول إن الشعر اللبناني ليس شعراً حديثاً إلا في الزمن، فهو إذا قيس بتطوّر الشعر الأوروبي كان متخلّفاً، أو قيس بالتراث العربي كان تقليدياً، لا فارق بينه وبين شعر القدامى في القالب والغرض، أو بعبارة مختصرة هو مقلِّد ومتخلّف.
وضرَب مثلاً بمجموعة "رندلي" للشاعر سعيد عقل (1911- 2014)، وتساءل هل نجد لأحداث هذه الحقبة التي كُتبت فيها المجموعة (1929- 1949) أثراً في قصائدها؟ وأجاب، "كلا.. لا في المضمون ولا في الشكل، فعقل هو ومن سبقه وجايله يقولون شعراً وكأنهم يعيشون خارج الزمن، إنهم روحياً وعقلياً في زمن آخر".
هم بالفعل لم يكونوا عائشين قط، إذ لو كانوا عائشين لتجاوبوا مع أحداث زمنهم، وجابهوا مشاكل زمنهم، وشاركوا في مسؤولية الحضارة أبناء زمنهم، وتأثروا في شعرهم بالتجارب الفنّية التي قام بها غيرهم من شعراء العالم.
وينتهي الخال إلى تحديد سمات مستقبل الشعر في لبنان، فيقرّر أنها سمات طليعية تجريبية، تقوم على التعبير عن التجربة الحياتية، وعلى استخدام الصورة الحيّة، واستبدال مفردات وتعابير مستمدّة من صميم التجربة وروح الشعب بالمفردات والتعابير القديمة، وتطوير الإيقاع الشعري، ووعي التراث الروحي والعقلي العربي وفهمه على حقيقته وكذلك الأمر مع التراث الأوروبي.
وسنجد صدى لهذا النقد ومنطلقاته بعد ثلاثة عشر عاماً لدى شاعرٍ آخر هو فاضل العزاوي (1940) من العراق، لجهة منطلق المعاصرة ومعناها، تعليقاً على مقال للشاعر المصري صلاح عبد الصبور (1931- 1981) حول شاعر آخر من مصر هو علي محمود طه (1902- 1949) جاء فيه: "هل نستطيع أن نقول إن علي محمود طه شاعر سلفي تقليدي؟" وأجاب عبد الصبور على سؤاله قائلاً: "إنه بلا شك شاعر يعيش عصره".
وعلى هذا ردّ العزاوي متسائلاً من جانبه: "ترى هل يمكن أن نقبل حقيقة أن علي محمود طه كان يعيش في العصر نفسه الذي عاش فيه أندريه بريتون وت. س. إليوت وجيمس جويس وإزرا باوند وكاندنسكي وبيكاسو؟ العصر الذي شهد أعمق التحوّلات الفكرية والأدبية والفنية؟ وهل تعني الكتابة عن بعض القضايا الوطنية أن الشاعر يعيش تجربة عصره؟ إن خطيئة علي محمود طه والشعراء الآخرين الذين عاصروه هي أنهم ظلّوا أسرى المستوى الثقافي الجماهيري، ولم يحاولوا التفتح على ثقافة عصرهم واستلهام الروح العاصفة التي كانت تحرّك ثقافة العالم".
والواضح من هذا أن كلا الشاعرين، يوسف الخال وفاضل العزاوي، على تباعد ما بينهما من زمان ومكان، كان يوحّد بينهما الإمساك بمعيار جديد على الثقافة العربية، وهذا لبّ القضية النقدية التي أثارها يوسف الخال، وواصلتها أجيال أخرى.
إن الإمساك بالمعيار الجديد يُحدث انقلاباً فورياً، إذ ستتغيّر أوزان الأشياء تغيُّراً مذهلاً، فما كان ذا وزن كبير نجده يهبط هبوطاً مُروّعاً، ويكتسب ما كان ذا وزنٍ خفيف ثقلاً ملموساً، وما رفضه البنّاؤون سيكون حجر الزاوية، والكثير من الحطب سيُلقى في النار بمجرّد أن تُوضع الفأس في أصل الشجرة.
ولا يهم في هذا السياق من قائل الفكرة، سواء كان من كائنات الماضي السحيق أو الحاضر الراهن. المهم الفكرة ذاتها. وهكذا حين يتناول طه حسين (1889- 1973) التجديد في الشعر ويصرّح قائلاً: "ليس على شبابنا من الشعراء بأس في ما أرى من أن يتحرّروا من قيود الوزن والقافية إذا تنافرت مع أمزجتهم وطبائعهم، ولا يطلب منهم في هذه الحرّية إلا أن يكونوا صادقين"، ويتصدّى له الناقد محمد مندور (1907- 1965) قائلاً: "إننا نحمد الله إذ نلاحظ أن شعراءنا المجدّدين، حتى الشباب منهم، قد كانوا ولا يزالون أرفق بالشعر وفنّه الرفيع من عميد الأدب"، يقف يوسف الخال إلى جانب طه حسين ورأيه، ولا يتوانى عن مناقشة اعتراضات مندور دفاعاً عن رأيٍ يراه جديراً بالاحترام.
هكذا، عاش يوسف الخال مخاض المعايير الجديدة متمسّكاً بقناعة أن التجديد في الشعر لا يأتي بقرار بل يأتي مدفوعاً بالحياة نفسها حين تبدأ بالتجدّد فينا أو تجدّدنا. ومن هنا فالصراع مع القديم ليس أمراً ذا بال ولكن الصراع الحقيقي هو في قلب الجديد نفسه. من هذا المنطلق وضع يوسف الخال نفسه ومجلته ضمن فئة ثالثة لا تريد أن تكون مع هذا الطرف أو ذاك، بل تحفر طريقاً جديداً لها.
كانت المجلة حريصة أن تنشر أي تقييمٍ أو شبه تقييم عن شعر شاعر أو عن مكانته. كان يُنشر في سياق خبر عن شاعر من أسرتها تارة، أو حين الإعلان عن صدور مجموعة شعرية تارة أخرى، وتبالغ فيه وتُفرط في إطلاق صفات "الطليعية" أو "الأولوية" أو "الخطورة" على عملٍ من الأعمال حتى قبل نشره.
وكان هذا نهجاً عاماً سلكته المجلات الأدبية في تلك الأيام، ومن يراجع "نصوص" تلك الإعلانات سيجد أنها تسلّقت صفحات ونصوص الصحافيين في السنوات اللاحقة، وما زالت تنتشر بيننا حتى اليوم وتجري مجرى التقييم النقدي على ألسنة القرّاء العرب بعامة، وتطلق في هذه الأيام من دون تفكيرٍ أو تدبّر من على شاشات الفضائيات، حين يتمثّل بها مقدّم برنامج أو يتّخذها محاورٌ شاهداً.
في نيسان/ إبريل من العام 1959، حين كان النقاش محتدماً حول التجديد، كتَب يوسف الخال في المجلة: "هناك ثلاث فئات تتجادل، الأولى ينتمي إليها معارضو التجديد، وحجّتهم أنه ليس في الإمكان أبدع ممّا كان، وهذه فئة تتضاءل مع الزمن، والثانية، وهي الفئة الغالبة، يشترط أصحابها الحفاظ على الوزن والقافية، ويتسامحون في أمر القضاء على عمود الشعر، والثالثة هي الفئة التي تنتمي إليها "شعر" فتدعو إلى إطلاق الشعر من كل قيد وشرط، فلا قواعد عروضية، ولا حدود تقف حائلاً بين الشاعر والإبداع".
موقف الخال هذا يمكن أن نصفه بموقف رائد حركة يتلمّس بدايات آثارها إلا أنه لا يستطيع تحديد ما ستؤول إليه، وليس موقف حجر الزاوية فيها، لأن مساهماته النقدية لم تكن كبيرة الأثر، ولم تتجاوز المقالات السريعة الشبيهة بالانطباعات، بينما تولّى آخرون تقديم النقد النظري، من أمثال أدونيس وماجد فخري ورينه حبشي.
وأخذ آخرون على أنفسهم مهمة تقديم نقد تطبيقي، من أمثال خالدة سعيد وأنسي الحاج (1937- 2014). ويمكن اعتبار انفتاح المجلة مساهمة ضرورية أطلقت إمكانية نشر نظرات نقدية كاشفة.
إذا استثنينا النقد النظري الذي تأثر بالفلسفة إلى حد بعيد، وخصوصاً فلسفة الإسباني/ الأميركي جورج سانتيانا (1863- 1952) والفرنسيّين، هنري برغسون (1859- 1941) وغاستون باشلار (1884- 1962) وجزء كبير من الأفلاطونية، يمكن القول إن مواجهات النص مباشرة كانت أكثر فاعلية، كما كانت التجارب الشعرية أشدّ تأثيراً.
وفي هذا النطاق، وفي جو من اختلاط الجديد بالتقليدي، كشفت نظرات نافذة نشرها نقّاد المجلة عن ازدواجية الجديد والتقليدي في تجارب شعراء كانت تعتبرهم وسائط الإعلام آنذاك، وما زالت، رموز حداثة وتجديد.
يلاحظ أسعد رزوق (1936- 2007)، أن عبد الصبور في بعض قصائده يجمع بين التجربة الشعرية الجديدة وبين القيم الكلاسيكية في آن واحد معاً. ويلاحظ أنسي الحاج هذه الازدواجية لدى عدد آخر من الشعراء. فيكتب عن محي الدين فارس (1936- 2008) "إن شعره مرّ في مرحلتين، مرحلة الشعر التقليدي ومرحلة الشعر الحديث، وهذه القفزة نجدها اليوم عند معظم الشعراء العرب".
ويكتب عن محمد مفتاح الفيتوري (1936- 2015): "على الرغم من تجاربه الشعرية الشخصية، وعلى الرغم من محاولاته التملّص من تأثراته الماضية، لا يزال مفتاح الفيتوري متأرجحاً بين أحلام القديم ومغريات الحديث، بين رومانطيقية ناجي ونداء التراب".