ولا تبدو جريمة "شارلي إيبدو" حدثاً عادياً في فرنسا اليوم، ولن تكون انعكاساتها عادية أيضاً. وهذا ما أثبتته الأيام الأولى التي تلت الاعتداء الإرهابي، فسجّلت باريس ومدن أخرى (تحديداً في شمال فرنسا) اعتداءات عدة على مراكز ودور عبادة إسلامية في ظلّ تخوّف دائم من يهود فرنسا من موجة غضب منتظرة ضد المراكز اليهودية.
لا شكّ أنّ مسألة يهود فرنسا تستحوذ اليوم أهمية كبرى في الساحة السياسية. ليس فقط لأن الطائفة اليهودية في فرنسا تعدّ الأضخم في أوروبا والثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية (أكثر من نصف مليون يهودي في فرنسا من أصل 13 مليوناً في العالم حسب إحصاءات فرنسية للعام 2014)، بل للنفوذ السياسي الكبير الذي يمتلكه يهود فرنسا. فهم متواجدون في كل التيارات السياسية الفرنسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وجدير بالذكر أنّ عدداً كبيراً منهم تزعّم وشارك في حركات طلابية ونقابية هامة، لا سيّما ثورة 68 الطلابية التي طبعت اسم آلان كريفين كواحد من قادة العمل الطلابي اليساري آنذاك. إضافة إلى ترؤس حكومات مثل ليون بلوم ومنديس فرانس (الحزب الاشتراكي) وميشال دوبريه الديغولي الانتماء.
والحال أنّ اليهود الفرنسيين رغم مساواتهم في الحقوق مع سائر المواطنين الفرنسيين، لم يندمجوا بشكل كامل في المجتمع الفرنسي، واستمروا في السعي نحو توحيد الصوت اليهودي. وهذا ما نجح به إلى حدّ ما "المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا ( CRIF) الذي جمع منذ العام 1977 أهم الجمعيات والمؤسسات اليهودية، فيما يشذّ الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام عن هذا الخط، وشكّلت إدانته الواضحة لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بلبلة في الإعلام الفرنسي، خاصّة بعد ارتفاع الأصوات المطالبة بتأمين حماية اليهود ومراكزهم.
تتصدّر الأفعال "المعادية للسامية" نشرات الأخبار وصفحات الجرائد الأولى في فرنسا، ويرتفع منسوب الجدل حول مشروعية ردات الفعل وحول نسبة التضامن الذي يلقاه الضحايا. وعليه تستند الحالة الداعمة لهجرة اليهود إلى فلسطين المحتلة إلى أيديولوجيا دينية متعصبة، بعيداً عن لغة العصر ومنظومة القوانين والاتفاقات والقرارات التي تعتبر مرجعية للصراع العربي والفلسطيني الإسرائيلي، وللعلاقات الدولية بشكل عام. وقد سجّلت مراكز الدراسات والأبحاث هجرة حوالى 7000 يهودي يقول الجزء الأكبر منهم (حوالى 49%) أنهم هاجروا بعد تصاعد الاعتداءات اللاسامية بحقهم، خاصة في الفترة التي تلت الاعتداء الذي قام به إسلامي فرنسي في مدينة تولوز في جنوب غرب فرنسا.
لكن في الإعلام الفرنسي أيضاً ثمة عملية خلط بين معادة السامية ونقد الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي. وغالباً ما تسعى المؤسسات اليهودية في فرنسا إلى استغلال أي نشاط يدعم حقوق الشعب الفلسيطيني في الحرية والعدالة وبناء دولة مستقلة، إلى اعتباره فعلاً "معادياً للسامية". وترتبط الدعاية الصهيونية في فرنسا إلى حد كبير بما يلزمه الـ CRIF ليهود فرنسا من دعم مطلق يستحوذ عليه المجلس اليهودي من قبل الحكومات الفرنسية المتعاقبة.
وللذكرى لا بدّ من العودة إلى الاعتداء الذي تعرّض له جاكوب كوهين ــ وهو كاتب فرنسي يهودي من أصول مغربية معاد للصهيونية ــ على يد "رابطة الدفاع عن اليهودية" في إحدى مقاهي سان جيرمان في باريس ربيع عام 2012 أثناء تقديمه لكتاب حول دعم القضية الفلسطينية.
لا يمكن المرور على موضوع يهود فرنسا اليوم من دون الحديث عما يثيره الممثل الساخر "ديودونيه" في مواقفه العنصرية المقيتة، التي تجمع العداء لليهود وتحظى بدعم من أهم الشخصيات اليمنية المتطرفة، وفي والوقت عينه لا يفوّت فرصة لإظهار دعمه للقضية الفلسطينية ورفض الاحتلال الإسرائيلي. يمكن القول إنّ كيدية الممثل الفرنسي من أصل كاميروني باتت مادة سجال، سيما بعدما قررت الشرطة الفرنسية توقيفه يوم أمس على خلفية استمراره في السخرية من حملة "أنا شارلي" بقوله على صفحته الخاصة على "فيسبوك" "أنا شارلي كوليبالي" في ترميز إلى هوية الشخص الذي ظهر في شريط فيديو متبنياً عملية "شارلي ايبدو".
في الوقت الذي تلجأ فيه منظمات يهودية إلى تسويق تغريدات "ديودونيه" مستغلة ردات الفعل المتجاوبة معها، وفي الوقت الذي تعلو نبرة كوكيرمان الممثل الأعلى لليهود في فرنسا، كما لو أنه رئيس حكومة تلك البلاد، إذ قال للمناسبة في المسيرة الجمهورية نهار الأحد: "نحن في حالة حرب... حرب كبيرة ضد اليهود تجري اليوم"، تبدو الأكثرية اليهودية هنا غير مقتنعة بالهجرة رغم صعوبة الإندماج ورغم التهديدات الكبيرة التي يترقبها هؤلاء، ويعلّلون ذلك بإمكانية التعايش في دولة مثل فرنسا يسودها القانون والحريات.