لم يكن الثمانيني المحنيّ الظهر يأبه بالهواء الذي يحمل المياه من البحر بملحها وبرودتها، وهو في زيّ لبناني تقليدي بقلنسوة بيضاء وصدرية وقميص وشروال أسود، وشاربين كثيفين رماديين. هذا هو عهده كل سبت وأحد، حتى لو كانت الدنيا عواصف ورعوداً، لا في تقلّبات سبتمبر/ أيلول المناخية المفاجئة فحسب.
ليس الأمر في يد الشيخ نشأت المحمود في نهاية المطاف، بل في يد ابنته التي نصحها الطبيب بإخراجه دورياً من المنزل. هو يحب البحر، والخروج يفيده، إن لجهة المشي أو لجهة أخذ نفس ولو لفترة محدودة بعيداً عن المنزل الذي يقع في أحد أزقة العاصمة اللبنانية بيروت. لا يعترض على مشوار البحر ولو لفح الهواء وجهه وتعلّقت حبيبات مائه المتطايرة بشاربيه. هو يعتبر الأمر فرصة جديدة للتندّر مع بعض رفاقه لا يبارحون مكانهم في الحي. لكنّ زوجته التي تماثله عمراً بقيت في السيارة اليوم، فاضطرت ابنتهما إلى تعديل البرنامج قليلاً في أخذهما إلى حديقة الصنائع القريبة.
هما ليسا المسنّين الوحيدين على كورنيش المنارة في بيروت، بل غيرهما كثيرون ممن يختارون مكاناً واحداً يجلسون فيه كلّ مرة، أو مساحة واحدة يروحون ويجيئون فيها على الرغم من تعب السنين السائرة على مهل.
بعضهم يأتي وحيداً مثل أبو رياض. هو في السابعة والسبعين، توقف عن العمل، منذ سنوات، لكن ليس بسبب السنّ بل بسبب جلطة دماغية أقعدته طوال أشهر. بعدها بدأ نظاماً صارماً لاستعادة عافيته، فكان طوال سنوات يصحب زوجته التي توفيت العام الماضي إلى المكان.
حزن كثيراً عليها كما يقول، لكنّه سرعان ما استعاد نشاطه، ولو وحيداً هذه المرة. العمر لا يسعفه للمشي مسافات طويلة، وحسناً فعلت البلدية في تجهيز الكورنيش بمقاعد خشبية وحجرية يرتاح عليها كلّ بضع مئا ت من الأمتار. ولو أنّ تلك المقاعد تحتاج إلى صيانة، منذ زمن بعيد لم تتوفر بعد. لا يقبل إلّا في إنهاء جولته نصف الأسبوعية بالكامل: "من مدينة الملاهي إلى جامع عين المريسة" أي نحو 2500 متر. لكنّ حالة أم ناصر أو أبو علي تختلف عن المتنزهين أو المتريّضين معاً.
الأولى، بسنواتها التي تلامس السبعين، تتربّع، منذ الصباح الباكر، على مقعد حجري لأن سمنتها المفرطة لا تسمح لها بالتحرك بعيداً عنه. تحاول التحدث مع النساء خصوصاً. تقرأ لهن الكفّ فيكرمنها ببعض المال، وبعضهن يجلسن معها وقتاً طويلاً. هي تحبّ الكلام، وتتحدث في كلّ شأن من شؤون النميمة. تشاهد التلفزيون لا سيّما المسلسلات التركية، ولديها آراء كثيرة في التعامل مع الزوج والحماة والكنّة والأولاد، ولو أنّها تعيش اليوم وحيدة.
الثاني متسول رسمي، عبارته المشهورة "السلام عليكم. مساعدة لوجه الله". طويل القامة ذو شعر كثيف أبيض، يبدو في وجهه بعض الالتواء. مشاكل العمر المديد تهاجمه من خرف وصعوبة تحرك وغيرهما. يرتدي بذلة ذاب لونها ويحمل عصا. يمشي صباحاً من منطقة عين المريسة حتى يصل إلى مقعده بالقرب من مسبح الجامعة الأميركية. هناك يردد عبارته لكلّ شخص. قليلاً ما يتوقف أحدهم. لكنّ إمضاء النهار كاملاً في المكان يفيده. لا يعترف بربح كبير، ويواصل لازمته المعتادة بعد قوله لأحدهم: "خاف الله 5 آلاف ليرة فقط! أريد أن أشتري الدواء". لا دواء معروفاً لديه، لكنّ يده تطوي الـ5 آلاف ليرة (3.33 دولارات أميركية) في الجيب ليتابع من بعدها نشاطه.
في حديقة الصنائع، التي تجاور شارع الحمراء وتتوسط منطقة مزدحمة في بيروت، لا تهتم مجموعة من المسنّين بالازدحام الكبير الذي يشهده المكان، خصوصاً في إجازة نهاية الأسبوع. أطفال وكبار يلعبون ويتنزهون ويركبون دراجاتهم، حتى خارج الأماكن المخصصة لمثل هذه النشاطات. يوبّخ الحارسُ بعضهم ممن يصعد على العشب بدراجته، لكنّه لا يتمكن من ملاحقة الجميع. لهؤلاء المسنّين جلستهم الخاصة عند السياج الشرقي للحديقة. وهم ليسوا كبقية المتنزهين زائري المكان أسبوعياً، بل مقيمون دائمون مع طاولتهم وألعاب ورق الشدة.
أحد هؤلاء الحاج أحمد، الذي كان يمتلك محلاً لتصليح الأحذية في المنطقة المحيطة بالحديقة. أقفل محله الصغير الذي كان قد بدأ العمل فيه عام 1968، قبل أكثر من 10 أعوام. لم يقفله عن عجز عن العمل لكن "من أجل أن يرتاح" كما قال له أبناؤه. ومنذ ذلك الحين هو من رواد المكان، ورواد مقهى مجاور. يمضي وقته الطويل هنا وهناك ويتمنى لو أنّه استمر في العمل. ليس تمنّيه ذاك عن حاجة مادية، بل عن ملل كبير يعيشه، وهو ملل لا تكسره إلّا جولات الورق، من حين لآخر.
اقــرأ أيضاً
ليس الأمر في يد الشيخ نشأت المحمود في نهاية المطاف، بل في يد ابنته التي نصحها الطبيب بإخراجه دورياً من المنزل. هو يحب البحر، والخروج يفيده، إن لجهة المشي أو لجهة أخذ نفس ولو لفترة محدودة بعيداً عن المنزل الذي يقع في أحد أزقة العاصمة اللبنانية بيروت. لا يعترض على مشوار البحر ولو لفح الهواء وجهه وتعلّقت حبيبات مائه المتطايرة بشاربيه. هو يعتبر الأمر فرصة جديدة للتندّر مع بعض رفاقه لا يبارحون مكانهم في الحي. لكنّ زوجته التي تماثله عمراً بقيت في السيارة اليوم، فاضطرت ابنتهما إلى تعديل البرنامج قليلاً في أخذهما إلى حديقة الصنائع القريبة.
هما ليسا المسنّين الوحيدين على كورنيش المنارة في بيروت، بل غيرهما كثيرون ممن يختارون مكاناً واحداً يجلسون فيه كلّ مرة، أو مساحة واحدة يروحون ويجيئون فيها على الرغم من تعب السنين السائرة على مهل.
بعضهم يأتي وحيداً مثل أبو رياض. هو في السابعة والسبعين، توقف عن العمل، منذ سنوات، لكن ليس بسبب السنّ بل بسبب جلطة دماغية أقعدته طوال أشهر. بعدها بدأ نظاماً صارماً لاستعادة عافيته، فكان طوال سنوات يصحب زوجته التي توفيت العام الماضي إلى المكان.
حزن كثيراً عليها كما يقول، لكنّه سرعان ما استعاد نشاطه، ولو وحيداً هذه المرة. العمر لا يسعفه للمشي مسافات طويلة، وحسناً فعلت البلدية في تجهيز الكورنيش بمقاعد خشبية وحجرية يرتاح عليها كلّ بضع مئا ت من الأمتار. ولو أنّ تلك المقاعد تحتاج إلى صيانة، منذ زمن بعيد لم تتوفر بعد. لا يقبل إلّا في إنهاء جولته نصف الأسبوعية بالكامل: "من مدينة الملاهي إلى جامع عين المريسة" أي نحو 2500 متر. لكنّ حالة أم ناصر أو أبو علي تختلف عن المتنزهين أو المتريّضين معاً.
الأولى، بسنواتها التي تلامس السبعين، تتربّع، منذ الصباح الباكر، على مقعد حجري لأن سمنتها المفرطة لا تسمح لها بالتحرك بعيداً عنه. تحاول التحدث مع النساء خصوصاً. تقرأ لهن الكفّ فيكرمنها ببعض المال، وبعضهن يجلسن معها وقتاً طويلاً. هي تحبّ الكلام، وتتحدث في كلّ شأن من شؤون النميمة. تشاهد التلفزيون لا سيّما المسلسلات التركية، ولديها آراء كثيرة في التعامل مع الزوج والحماة والكنّة والأولاد، ولو أنّها تعيش اليوم وحيدة.
الثاني متسول رسمي، عبارته المشهورة "السلام عليكم. مساعدة لوجه الله". طويل القامة ذو شعر كثيف أبيض، يبدو في وجهه بعض الالتواء. مشاكل العمر المديد تهاجمه من خرف وصعوبة تحرك وغيرهما. يرتدي بذلة ذاب لونها ويحمل عصا. يمشي صباحاً من منطقة عين المريسة حتى يصل إلى مقعده بالقرب من مسبح الجامعة الأميركية. هناك يردد عبارته لكلّ شخص. قليلاً ما يتوقف أحدهم. لكنّ إمضاء النهار كاملاً في المكان يفيده. لا يعترف بربح كبير، ويواصل لازمته المعتادة بعد قوله لأحدهم: "خاف الله 5 آلاف ليرة فقط! أريد أن أشتري الدواء". لا دواء معروفاً لديه، لكنّ يده تطوي الـ5 آلاف ليرة (3.33 دولارات أميركية) في الجيب ليتابع من بعدها نشاطه.
في حديقة الصنائع، التي تجاور شارع الحمراء وتتوسط منطقة مزدحمة في بيروت، لا تهتم مجموعة من المسنّين بالازدحام الكبير الذي يشهده المكان، خصوصاً في إجازة نهاية الأسبوع. أطفال وكبار يلعبون ويتنزهون ويركبون دراجاتهم، حتى خارج الأماكن المخصصة لمثل هذه النشاطات. يوبّخ الحارسُ بعضهم ممن يصعد على العشب بدراجته، لكنّه لا يتمكن من ملاحقة الجميع. لهؤلاء المسنّين جلستهم الخاصة عند السياج الشرقي للحديقة. وهم ليسوا كبقية المتنزهين زائري المكان أسبوعياً، بل مقيمون دائمون مع طاولتهم وألعاب ورق الشدة.
أحد هؤلاء الحاج أحمد، الذي كان يمتلك محلاً لتصليح الأحذية في المنطقة المحيطة بالحديقة. أقفل محله الصغير الذي كان قد بدأ العمل فيه عام 1968، قبل أكثر من 10 أعوام. لم يقفله عن عجز عن العمل لكن "من أجل أن يرتاح" كما قال له أبناؤه. ومنذ ذلك الحين هو من رواد المكان، ورواد مقهى مجاور. يمضي وقته الطويل هنا وهناك ويتمنى لو أنّه استمر في العمل. ليس تمنّيه ذاك عن حاجة مادية، بل عن ملل كبير يعيشه، وهو ملل لا تكسره إلّا جولات الورق، من حين لآخر.